رسالة في التوسل والوسيلةالجزء الثالث الثلاثون.

السؤال: رسالة في التوسل والوسيلةالجزء الثالث الثلاثون.

الإجابة

الإجابة: ونصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلى على النبى ونسلم عليه فى كل مكان، فهذا مما اتفق عليه المسلمون، وكذلك رغبنا وحضنا فى الحديث الصحيح على أن نسأل اللّه له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقاماً محموداً الذى وعده‏.‏
فهذه الوسيلة التى شرع لنا أن نسألها اللّه تعالى كما شرع لنا أن نصلى عليه ونسلم عليه هى حق له، كما أن الصلاة عليه والسلام حق له صلى الله عليه وسلم‏.‏
والوسيلة التى أمرنا اللّه أن نبتغيها إليه هى التقرب إلى الله بطاعته، وهذا يدخل فيه كل ما أمرنا اللّه به ورسوله‏.‏
وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها إلا باتباع النبى صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وطاعته، وهذا التوسل به فرض على كل أحد‏.‏
وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما يسأله الناس يوم القيامة أن يشفع لهم، وكما كان الصحابة يتوسلون بشفاعته في الاستسقاء وغيره، مثل توسل الأعمى بدعائه حتى رد الله عليه بصره بدعائه وشفاعته فهذا نوع ثالث هو من باب قبول اللّه دعاءه وشفاعته لكرامته عليه، فمن شفع له الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا له فهو بخلاف من لم يدع له ولم يشفع له‏.‏
ولكن بعض الناس ظن أن توسل الصحابة به كان بمعنى أنهم يقسمون به ويسألون به، فظن هذا مشروعاً مطلقاً لكل أحد فى حياته ومماته، وظنوا أن هذا مشروع فى حق الأنبياء والملائكة، بل وفى الصالحين وفيمن يظن فيهم الصلاح، وإن لم يكن صالحاً فى نفس الأمر‏.‏
وليس فى الأحاديث المرفوعة فى ذلك حديث فى شىء من دواوين المسلمين التى يعتمد عليها فى الأحاديث لا فى الصحيحين ولا كتب السنن ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره وإنما يوجد فى الكتب التى عرف أن فيها كثيراً من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التى يختلقها الكذابون، بخلاف من قد يغلط فى الحديث ولا يتعمد الكذب، فإن هؤلاء توجد الرواية عنهم فى السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه، بخلاف من يتعمد الكذب فإن أحمد لم يرو فى مسنده عن أحد من هؤلاء‏.‏
ولهذا تنازع الحافظ أبو العلاء الهمدانى والشيخ أبو الفرج ابن الجوزى‏:‏ هل فى المسند حديث موضوع ‏؟‏ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون فى المسند حديث موضوع، وأثبت ذلك أبو الفرج وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة، ولا منافاة بين القولين‏.‏
فإن الموضوع فى اصطلاح أبى الفرج، هو الذى قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه؛ ولهذا روى فى كتابه فى الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع، وقد نازعه طائفة من العلماء فى كثير مما ذكره وقالوا‏:‏ إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره فى الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء‏.‏
وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذى تعمد صاحبه الكذب، والكذب كان قليلا فى السلف‏.‏
أما الصحابة فلم يعرف فيهم ولله الحمد من تعمد الكذب على النبى صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفِرَق‏.‏
ولا كان فيهم من قال‏:‏ إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى مات كما بُيِّن هذا فى غير هذا الموضوع، والخضر الذى يأتى كثيراً من الناس إنما هو جِنىٌّ تصور بصورة إنسى أو إنسى كذاب، ولا يجوز أن يكون ملكا مع قوله‏:‏ أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب وإنما يكذب الجنى والإنسى‏.‏وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنيا مما يطول ذكره فى هذا الموضع‏.‏وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس‏.‏
وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها، كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات، كما قد بسط الكلام على ذلك فى مواضع‏.‏
وأما التابعون فلم يعرف تعمد الكذب فى التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة، بخلاف الشيعة، فإن الكذب معروف فيهم، وقد عرف الكذب بعد هؤلاء فى طوائف‏.‏
وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل فى الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم‏.‏
ولهذا كان فيما صنف فى الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط، وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يعلم أنه حق‏.
فالحافظ أبو العلاء يعلم أنها غلط، والإمام أحمد نفسه قد بين ذلك وبين أنه رواها لتعرف، بخلاف ما تعمد صاحبه الكذب؛ ولهذا نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروى عنهم أهل السنن كأبى داود والترمذى، مثل مشيخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنى عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروى في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجود من شرط أبى داود في سننه‏.‏
والمقصود أن هذه الأحاديث التى تروى في ذلك من جنس أمثالها من الأحاديث الغريبة المنكرة، بل الموضوعة التى يرويها من يجمع في الفضائل والمناقب الغَثَّ والسَّمين، كما يوجد مثل ذلك فيما يصنف في فضائل الأوقات، وفضائل العبادات، وفضائل الأنبياء والصحابة، وفضائل البقاع، ونحو ذلك، فإن هذه الأبواب فيها أحاديث صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث ضعيفة وأحاديث كذب موضوعة، ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التى ليست صحيحة ولا حسنة، لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب‏.‏
وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعى، وروى في فضله حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقا، ولم يقل أحد من الأئمة‏:‏ إنه يجوز أن يجعل الشىء واجبا أو مستحبا بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع‏.‏