فصل: التفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة

السؤال: فصل: التفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة

الإجابة

الإجابة: فصل:

والتفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة‏:‏

أحدها‏:‏ الأعمال الظاهرة‏:‏ فإن الناس يتفاضلون فيها، وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان‏.‏

فالنفاة يقولون‏:‏ هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال‏:‏ قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازماً أو جزءاً منه فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان مفرداً، أو مقروناً بلفظ الإسلام والعمل، كما تقدم‏.

‏‏ وأما قولهم‏:‏ الزيادة في العمل الظاهر لا في موجبه ومقتضيه فهذا غلط، فإن التفاضل معلول الأشياء‏.

‏‏ ومقتضاها يقتضي تفاضلها في أنفسها، وإلا فإذا تماثلت الأسباب الموجبة لزم تماثل موجبها ومقتضاها‏.

‏‏ فتفاضل الناس في الأعمال الظاهرة يقتضي تفاضلهم في موجب ذلك ومقتضيه، ومن هذا يتبين‏:‏

الوجه الثاني‏:‏ في زيادة الإيمان ونقصه‏:‏ وهو زيادة أعمال القلوب ونقصها، فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن‏:‏ أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم و نحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"‏‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏24‏]‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ "‏‏والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده‏"،، وقال "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين‏‏، وقال له عمر‏:‏ يا رسول الله، لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، قال‏:‏‏‏لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك‏‏، قال‏:‏ فلأنت أحب إلى من نفسي، قال‏:‏‏‏الآن يا عمر‏"‏‏‏.‏

وهذه الأحاديث ونحوها في الصحاح، وفيها بيان تفاضل الحب والخشية، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة‏.‏

ولهذا كان أهل المعرفة من أعظم الناس قولاً بدخول الزيادة والنقصان فيه، لما يجدون من ذلك في أنفسهم، ومن هذا قوله تعالى‏:‏‏{‏‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏، وإنما زادهم طمأنينة وسكوناً‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً‏"‏‏‏.‏

الوجه الثالث‏:‏أن نفس التصديق والعلم في القلب يتفاضل باعتبار الإجمال والتفصيل، فليس تصديق من صدق الرسول مجملاً من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره، كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته، والجنة والنار والأمم وصدقه في ذلك كله، وليس من التزم طاعته مجملاً، ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به، كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلاً وأطاعه فيه‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي، من القدرة، والإرادة، والسمع والبصر، والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك، فإذا كانت القدرة على الشيء تتفاوت فكذلك الإخبار عنه يتفاوت، وإذا قال القائل‏:‏ العلم بالشيء الواحد لا يتفاضل، كان بمنزلة قوله‏:‏القدرة على المقدور الواحد لا تتفاضل، وقوله‏:‏ ورؤية الشيء الواحد لا تتفاضل‏.

‏ ومن المعلوم أن الهلال المرئي يتفاضل الناس في رؤيته، وكذلك سمع الصوت الواحد يتفاضلون في إدراكه، وكذلك الكلمة الواحدة يتكلم بها الشخصان ويتفاضلون في النطق بها، وكذلك شم الشيء الواحد وذوقه يتفاضل الشخصان فيه‏.‏

فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته، وحركاته، بل وغير صفات الحي، إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر، حتى يقال‏:‏ ليس أحد من المخلوقين يعلم شيئاً من الأشياء مثل ما يعلمه الله من كل وجه، بل علم الله بالشيء أكمل من علم غيره به كيف ما قدر الأمر، وليس تفاضل العلمين من جهة الحدوث والقدم فقط، بل من وجوه أخري‏.

‏‏ والإنسان يجد في نفسه أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه كما يتفاضل حاله في سمعه لمسموعه، ورؤيته لمرئيه، وقدرته على مقدوره، وحبه لمحبوبه، وبغضه لبغيضه، ورضاه بمرضيه، وسخطه لمسخوطه، وإرادته لمراده، وكراهيته لمكروهه، ومن أنكر التفاضل في هذه الحقائق كان مسفسطاً‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ أن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستند تصديقه ومحبته أدلة توجب اليقين، وتبين فساد الشبهة العارضة، لم يكن بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك، بل من جعل له علوم ضرورية لا يمكنه دفعها عن نفسه لم يكن بمنزلة من تعارضه الشبه ويريد إزالتها بالنظر والبحث، ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك، وبيان بطلان حجة المحتج عليها ليس كالعلم الذي هو الحاصل عن دليل واحد، من غير أن يعلم الشبه المعارضة له، فإن الشيء كلما قويت أسبابه وتعددت وانقطعت موانعه واضمحلت، كان أوجب لكماله، وقوته وتمامه‏.

‏‏ الوجه السادس‏:‏ أن التفاضل يحصل في هذه الأمور من جهة دوام ذلك وثباته وذكره واستحضاره، كما يحصل البغض من جهة الغفلة عنه والإعراض والعلم والتصديق والحب والتعظيم وغير ذلك، فما في القلب هي صفات وأعراض وأحوال تدوم وتحصل بدوام أسبابها وحصول أسبابها‏.

‏‏ والعلم وإن كان في القلب فالغفلة تنافي تحققه، والعالم بالشيء في حال غفلته عنه دون العالم بالشيء في ذكره له، قال عُمَير بن حبيب الخَطْمي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ الإيمان يزيد وينقص، قالوا‏:‏ وما زيادته ونقصه‏؟‏ قال‏:‏ إذا حمدنا الله وذكرناه وسبحناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه‏.‏

الوجه السابع‏:‏ أن يقال‏: ‏ليس فيما يقوم بالإنسان من جميع الأمور أعظم تفاضلا وتفاوتاً من الإيمان، فكلما تقرر إثباته من الصفات والأفعال مع تفاضله، فالإيمان أعظم تفاضلا من ذلك‏.

‏‏ ومثال ذلك أن الإنسان يعلم من نفسه تفاضل الحب الذي يقوم بقلبه، سواء كان حباً لولده، أو لامرأته، أو لرياسته، أو وطنه، أو صديقه، أو صورة من الصور، أو خيله، أو بستانه، أو ذهبه، أو فضته، وغير ذلك من أمواله، فكما أن الحب أوله علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب نحوه، ثم غرام للزومه القلب كما يلزم الغريم غريمه، ثم يصير عشقاً إلي أن يصير تَتَيُّماً والتَّتَيُّم‏:‏ التَّعَبُّد، وتيم الله‏:‏ عبد الله فيصير القلب عبداً للمحبوب مطيعاً له لا يستطيع الخروج عن أمره، وقد آل الأمر بكثير من عشاق الصور إلى ما هو معروف عند الناس، مثل من حمله ذلك على قتل نفسه وقتل معشوقه أو الكفر والردة عن الإسلام أو أفضى به إلى الجنون وزوال العقل، أو أوجب خروجه عن المحبوبات العظيمة من الأهل والمال والرياسة، أو أمراض جسمه وأسنانه‏.

‏‏ فمن قال‏:‏ الحب لا يزيد ولا ينقص، كان قوله من أظهر الأقوال فساداً، ومعلوم أن الناس يتفاضلون في حب الله أعظم من تفاضلهم في حب كل محبوب، فهو سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ محمد أيضاً خليلاً، كما استفاض عنه أنه قال "‏‏لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله‏"‏‏، يعني نفسه صلى الله عليه وسلم‏.

‏‏ وقال "إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلا‏"‏‏، والخُلَّة أخص من مطلق المحبة، فإن الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يحبون الله ويحبهم الله، كما قال‏:‏ ‏ {‏‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏54‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏165‏]‏، وقد أخبر الله أنه يحب المتقين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بحبه لغير واحد، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال للحسن وأسامة "االلهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما‏"،، وقال له عمرو بن العاص‏ "‏‏أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ عائشة‏.‏قال‏:‏ فمن الرجال‏؟‏ قال‏:‏ أبوها‏.‏ وقال‏:‏ والله إني لأحبكم"‏‏‏.‏

والناس في حب الله يتفاوتون، ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم، إلى أدني الناس درجة، مثل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، و ما بين هذين الحدين من الدرجات لا يحصيه إلا رب الأرض والسموات، فإنه ليس في أجناس المخلوقات ما يتفاضل بعضه على بعض كبني آدم، فإن الفرس الواحدة ما تبلغ أن تساوي ألف ألف‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر أنه كان جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ مر به رجل من أشراف الناس، فقال "يا أبا ذر، أتعرف هذا‏؟‏‏‏‏.‏ قلت‏:‏ نعم، يا رسول الله، هذا حَرِيٌّ إن خطب أن ينكح، وإن قال أن يُسْمَع لقوله، وإن غاب أن يسأل عنه‏.‏ ثم مر برجل من ضعفاء المسلمين، فقال‏:‏ ‏‏يا أبا ذر، أتعرف هذا‏؟‏‏‏‏.‏ قلت‏:‏ نعم يا رسول الله هذا رجل من ضعفاء الناس، هذا حري إن خطب ألا يُنْكَح، وإن قال ألا يُسْمَع لقوله، وإن غاب ألا يسأل عنه، فقال‏:‏ ‏يا أبا ذر، لَهَذَا خير من ملء الأرض مثل هذا‏"‏‏‏.‏

فقد أخبر الصادق الذي لا يجاوز فيما يقول‏:‏ أن الواحد من بني آدم يكون خيراً من ملء الأرض من الآدميين، وإذا كان الواحد منهم أفضل من الملائكة، والواحد منهم شر من البهائم، كان التفاضل الذي فيهم أعظم من تفاضل الملائكة، وأصل تفاضلهم إنما هو بمعرفة الله ومحبته، فعلم أن تفاضلهم في هذا لا يضبطه إلا الله، وكل ما يعلم من تفاضلهم في حب الشيء من محبوباتهم، فتفاضلهم في حب الله أعظم‏.‏

وهكذا تفاضلهم في خوف ما يخافونه، وتفاضلهم في الذل والخضوع لما يذلون له ويخضعون، وكذلك تفاضلهم فيما يعرفونه من المعروفات، ويصدقون به ويقرون به، فإن كانوا يتفاضلون في معرفة الملائكة وصفاتهم، والتصديق بهم، فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم‏.‏

وكذلك إن كانوا يتفاضلون في معرفة روح الإنسان وصفاتها والتصديق بها، أو في معرفة الجن وصفاتهم وفي التصديق بهم، أو في معرفة ما في الآخرة من النعيم والعذاب كما أخبروا به من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات والمسكونات فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم من تفاضلهم في معرفة الروح التي هي النفس الناطقة، ومعرفة ما في الآخرة من النعيم والعذاب، بل إن كانوا متفاضلين في معرفة أبدانهم وصفاتها وصحتها ومرضها وما يتبع ذلك، فتفاضلهم في معرفة الله أعظم وأعظم، فإن كل ما يعلم ويقال يدخل في معرفة الله، إذ لا موجود إلا وهو خلقه، وكل ما في المخلوقات من الصفات والأسماء والأقدار والأفعال فإنها شواهد ودلائل على ما لله سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، إذ كل كمال في المخلوقات فمن أثر كماله، وكل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه، وهذا على طريق كل طائفة واصطلاحها‏.

‏‏ فهذا يقول‏:‏ كمال المعلول من كمال علته، وهذا يقول‏:‏ كمال المصنوع المخلوق من كمال صانعه وخالقه‏.

‏‏ وفي الحديث الذي رواه أحمد في المسند، ورواه ابن حِبَّان في صحيحه عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ "ما أصاب عبداً هَمٌّ ولا حَزَن فقال‏:‏ اللهم إني عَبْدُك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عَدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن رَبيع قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذهاب هَمِّى وغَمِّي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ألا نتعلمهن‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن‏"‏‏‏.

‏‏ فقد أخبر في هذا الحديث‏:‏أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، وأسماء الله متضمنة لصفاته ليست أسماء أعلام محضة، بل أسماؤه تعالى كالعليم والقدير والسميع والبصير والرحيم والحكيم ونحو ذلك، كل اسم يدل على ما لم يدل عليه الاسم الآخر من معاني صفاته، مع اشتراكها كلها في الدلالة على ذاته، وإذا كان من أسمائه ما اختص هو بمعرفته، ومن أسمائه ما خص به من شاء من عباده، علم أن تفاضل الناس في معرفته أعظم من تفاضلهم في معرفة كل ما يعرفونه‏.‏

وبهذا يتبين لك أن من زعم من أهل الكلام والنظر أنهم عرفوا الله حق معرفته،بحيث لم يبق له صفة إلا عرفوها، وأن ما لم يعرفوه ولم يقم لهم دليل على ثبوته، كان معدوماً منتفياً في نفس الأمر، قوم غالطون مخطئون مبتدعون ضالون، وحجتهم في ذلك داحضة، فإن عدم الدليل القطعي والظني على الشيء دليل على انتفائه، إلا أن يعلم أن ثبوته مستلزم لذلك الدليل‏.

‏‏ مثل أن يكون الشيء لو وجد لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، فيكون هذا لازماً لثبوته، فيستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم، كما يعلم أنه لو كان بين الشام والحجاز مدينة عظيمة مثل بغداد ومصر لكان الناس ينقلون خبرها، فإذا نقل ذلك واحد واثنان وثلاثة علم كذبهم‏.‏

وكما يعلم أنه لو ادعى النبوة أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل مُسَيْلَمَة والْعَنْسِيّ وطُلَيْحَة وسَجَاح لنقل الناس خبره، كما نقلوا أخبار هؤلاء، ولو عارض القرآن معارضٌ أتى بما يظن الناس أنه مثل القرآن، لنقل كما نقل قرآن مسيلمة الكذاب، وكما نقلوا الفصول والغايات لأبي العلاء المعَرِّي، وكما نقلوا غير ذلك من أقوال المعارضين، لو بخرافات لا يظن عاقل أنها مثله، فكان النقل لما تظهر فيه المشابهة والمماثلة أقوى في العادة والطباع في ذلك وأرغب سواء كانوا محبين أو مبغضين هذا أمر جُبِل عليه بنو آدم‏.

‏‏ كما يعلم أن علي بن أبي طالب لو طلب الخلافة على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وقاتل عليها لنقل ذلك الناس، كما نقلوا ما جرى بعد هؤلاء، كما يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمره أن يصلي بالناس صلاتهم لنقلوا ذلك، كما نقلوا أمره لأبي بكر وصلاته بالناس، وكما يعلم أنه لو عهد له بالخلافة لنقلوا ذلك كما نقلوا ما دونه، بل كما يعلم أنه لم يكن يجتمع هو وأصحابه على استماع دف أو كف ولا على رقص وزمر، بل كما يعلم أنه لم يكن بعد الصلوات يجتمع هو وهم على دعاء ورفع أيد، ونحو ذلك، إذ لو فعل ذلك لنقلوه، بل كما يعلم أنه لم يصل في السفر الظهر والعصر والعشاء أربعاً، وأنه لو صلى في السفر أربعاً بعض الأوقات لنقل الناس ذلك، كما نقلوا جَمْعَه بين الصلاتين بعض الأوقات‏.‏

بل كما يعلم أنه لم يكن يصلي المكتوبات وحده، بل إنما كان يصليهن في الجماعة، بل كما يعلم أنه لم يكن هو وأصحابه يحملون التراب في السفر للتيمم، ولا يصلون كل ليلة على من يموت من المسلمين، ولا ينوون الاعتكاف كلما دخلوا مسجداً للصلاة، بل كما يعلم أنه لم يصل على غائب غير النجاشي، بل كما يعلم أنه لو كان دائماً يَقْنُتُ في الفجر أو غيرها بقنوت مسنون يجهر به لنقل الناس ذلك كما نقلوا قنوته العارض الذي دعا فيه لقوم وعلى قوم، وكان نقلهم لذلك أوكد وكما يعلم أنه لما صلى بعرفة ومزدلفة قصراً وجمعاً لو أمر أحداً خلفه أن يتم صلاته، أو ألا يجمع معه لنقل الناس ذلك، كما نقلوا ما هو دون ذلك‏.

‏‏ وكما يعلم أنه لم يأمر الحُيَّض في زمانه المبتدآت بالحيض، أن يغتسلن عند انقضاء يوم وليلة، وأنه لم يأمر أصحابه أن يغسلوا ما يصيب أبدانهم وثيابهم من المني، وأنه لم يوقت للناس لفظاً معيناً لا في نكاح ولا في بيع ولا إجارة ولا غير ذلك‏.

‏‏ ولما حج حجة الوداع لم يعتمر عقيب الحج، وأنه لما أفاض من منى إلى مكة يوم النحر، ما طاف وسعى أولاً ثم طاف ثانياً، إلى غير ذلك مما يطول ذكره،ومن تتبع كتب الصحيحين ونحوها من الكتب المعتمدة، ووقف على أقوال الصحابة والتابعين ومن قفا منهاجهم من الأئمة المرضيين قديماً وحديثاً علم صحة ما أوردناه في هذا الباب‏.

‏‏ والمقصود هنا أن المدلول إذا كان وجوده مستلزماً لوجود دليله، كان انتفاء دليله دليلاً على انتفائه، أما إذا أمكن وجوده وأمكن ألا نعلم نحن دليل ثبوته لم يكن عدم علمنا بدليل وجوده دليلاً على عدمه، فأسماء الله وصفاته إذا لم يكن عندنا ما يدلنا عليها لم يكن ذلك مستلزماً لانتفائها، إذ ليس في الشرع ولا في العقل ما يدل على أنا لابد أن نعلم كل ما هو ثابت له تعالى من الأسماء والصفات، بل قد قال أفضل الخلق وأعلمهم بالله في الحديث الصحيح ‏‏"لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"‏‏، وفي الحديث الصحيح، حديث الشفاعة "فأخر ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها عليَّ لا أحصيها الآن"‏‏‏.

‏‏ فإذا كان أفضل الخلق لا يحصى ثناء عليه، ولا يعرف الآن محامده التي يحمده بها عند السجود للشفاعة، فكيف يكون غيره عارفاً بجميع محامد الله والثناء عليه، وكل ما له من الأسماء الحسنى فإنه داخل في محامده وفيما يثنى عليه به وإذا كان كذلك فمن كان بما له من الأسماء والصفات أعلم وأعرف كان بالله أعلم وأعرف، بل من كان بأسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته أعلم كان بالنبي صلى الله عليه وسلم أعلم، فليس من علم أنه نبي كمن علم أنه رسول، ولا من علم أنه رسول كمن يعلم أنه خاتم الرسل ولا من علم أنه خاتم الرسل كمن علم أنه سيد ولد آدم، ولا من علم ذلك كمن علم ما خصه الله به من الشفاعة والحوض والمقام المحمود والملة وغير ذلك من فضائله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من جهل شيئاً من خصائصه يكون كافراً، بل كثير من المؤمنين لم يسمع بكثير من فضائله وخصائصه، فكذلك ليس كل من جهل بعض أسماء الله وصفاته يكون كافراً، إذ كثير من المؤمنين لم يسمع كثيراً مما وصفه به رسوله، وأخبر به عنه‏.

‏‏ فهذه الوجوه ونحوها مما تبين تفاضل الإيمان الذي في القلب، وأما تفاضلهم في الأقوال والأعمال الظاهرة فلا تشتبه على أحد.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.