الإجابة:
إن اللباس من نعم الله التي امتن بها على هذا الجنس البشري، فالله
سبحانه وتعالى جعل هذه الشمس آية من آياته ولم يمحها، أي جعل فيها
أشعة تصل إلى الأرض، وجعل القمر آية من آياته ولكنه محاها فلم يجعل
فيها أشعة، ولذلك قال: {فَمَحَوْنَا
آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}،
فآية النهار مبصرة وهي الشمس، وآية الليل ممحوة وهي القمر، فهذه
الأشعة التي تصل إلى الأرض بعضها مضر بالأجسام فتحتاج الأجسام إلى
وقاية منه.
وقد ستر الله كثيراً من الحيوانات بما أنبت على جلودها من الشعر الذي
يحميها من الأشعة، وجعل الإنسان في أغلب جسمه مجرداً من هذه الشعور
التي تقي من الأشعة فقيض له اللباس الذي هو زينة وستر فستره به.
وفي المجتمع البدائي الأولي عندما كانت أسرة آدم في الأرض حديثة العهد
كانت احتياجاتها مستوردة فأنزل الله لآدم وحواء اللباس من السماء،
ولبني آدم كذلك كما قال الله تعالى: {يَا
بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي
سَوْآَتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}،
ثم بعد هذا علم الله بني آدم صنعة اللباس والنسيج وزراعة المواد
القطنية التي يتحقق منها اللباس، وعلمهم أيضاً استخلاص القز -استخلاص
ثمر دود القز- وغير ذلك من وسائل اللباس، فكان اللباس إذن منحة ربانية
ونعمة عظيمة على الجنس البشري، والنعمة من شُكْرِها لله أن لا تتعدى
فيها حدود الله، أن يأخذها الإنسان بحقها وأن يضعها في محلها الذي
وضعها الشارع فيه، فقد حرم الشارع أنواعاً من الملابس على الرجال وهي
الحرير والذهب، فقد حرمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذكور هذه
الأمة، فقد صح عنه أنه جعل في إحدى يديه ذهباً وفي الأخرى حريراً
فقال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي، حلٌ
لإناثها".
وهذا يقتضي أن يحرص الإنسان على أن لا يكون في لباسه حرير ولا ذهب،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرمهما على الرجال، وهذا الحرير قسمان،
قسم منه إنتاج دود القز وهو الحرير الذي ورد فيه النص وهو المحرم على
الرجال، وقد استثنى منه الشارع أموراً قليلة منها: ما كان سداه من
الحرير وكانت لُحْمَتُهُ من غيره أو العكس وهو الذي يسمى بالخَزِّ
والقَسِّ، وكذلك موضع أربعة أصابع لمن به حكة، فقد استثنى ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأما النوع الثاني من الحرير فهو الحرير
الصناعي، وهو الذي تتخذ منه ربطات العنق في أغلبها، فهذا الأصل فيه
عدم الحرمة وأنه لا يدخل في الأحاديث الواردة في الحرير المعروف في
العهد النبوي، لأن هذا من اختلاف دلالات الألفاظ وتنوعها، وهو من
الأمور المحدثة فلذلك لا يحمل النهي عليه، فإذن الضابط الأول في لباس
الرجل أن لا يكون حريراً ولا ذهباً.
الضابط الثاني من ضوابط لباس الرجل: أن يكون ساتراً لما أوجب الله
عليه، وقد أوجب الله ستر العورة، وهي من الرجل ما بين السرة والركبة،
وقد قيل الغايتان داخلتان وقيل: خارجتان، وقيل الغاية العليا داخلة
والغاية السفلى خارجة، وهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم، القول الأول: أن
الغايتين وهما السرة والركبة داخلتان في العورة معا فكلتاهما عورة،
القول الثاني: هما خارجتان فليستا بعورة وتبدأ العورة من ما تحت السرة
ومما فوق الركبة، القول الثالث: يجعل السرة داخلة في العورة ويجعل
الركبة خارجة عنها، فالفخذان عورة، وقد جاء النص بذلك، وأما الركبتان
فهما غير عورة، وما ورد من بدُوّ فخذ النبي صلى الله عليه وسلم في
حديث دخول عثمان عليه فقد حمله كثير من أهل العلم على أن المقصود به
بدو ركبته صلى الله عليه وسلم وليس بدو فخذه، وقد يكون غير مقصود كما
يحصل في جري الفرس، فالفارس إذا لم يكن يشمر عليه ملابسه تشميراً
خاصاً إذا جرى به الفرس كثيراً ما ينكشف بعض الثياب عن بعض أعضائه،
وهذا الضابط وهو ضابط الستر يتجه إلى اتجاهين، الاتجاه الأول: أن لا
يشف، والاتجاه الثاني أن لا يصف.
فالاتجاه الأول: أن لا يشف أي أن لا يكون رقيقاً يُرى اللون من تحته،
فما يُرى من تحته اللون لا يجوز للرجال ستر العورة به لأنه غير ساتر،
وسيأتي أيضاً في النساء الكلام في ذلك.
والضابط الثاني: أن لا يصف أي أن لا يحدد العورة، وهذا محل خلاف بين
أهل العلم، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن كل واصف لأعضاء العورة
كالمحدد للفخذ على قدرها بضيق والمحدد للأليتين مثلاً على قدرهما
بضيق، قالت طائفة من أهل العلم لا يحل هذا النوع من اللباس لما فيه من
التحديد، وقالت طائفة أخرى بل هو جائز لأنه لا يصف اللون ولا يرى ما
تحته فهو ساتر ولو حدد الجسم، لأن الإنسان حتى لو لبس ملابس ستبقى
أعضاؤه محددة وقامته محددة، ومذهب المالكية مراعاة الخلاف، فيتوسطون
بين المذاهب دائماً، إذا جاء مذهب فيه تحريم ومذهب فيه إباحة يتولد
منهما قول للمالكية وهو القول بالكراهة، فلذلك أخذ المالكية بكراهة
الثوب الذي يحدد من غير ريح، كما قال خليل: "وكُره مُحّدَِدٌ لا
بريح"، فالتحديد بسبب الرياح، إذا أصابت الرياح الثوب فلصق بالأعضاء
فحددها هذا غير مكروه إجماعاً وغير حرام، إذا كان التحديد بسبب الضيق
وهذا المحدد لا بريح فبعض أهل العلم يرى حرمته وبعضهم يرى إباحته
والمالكية يرون كراهته، إذن هذا الضابط الثاني.
الضابط الثالث: أن لا يكون هذا الثوب لباساً دينياً لقوم غير
المسلمين، كقبعة اليهود عليهم لعائن الله، وكالزُّنار الذي يشده
الذميون على أوساطهم، ليتميزوا به عن المسلمين، وكثياب الكنيسة
المخصوصة، وكثياب عبدة النار، الثياب الدينية لأي طائفة من الطوائف،
فهذه لا يحل للمسلم لبسها، وأما الثياب التي يلبسها غير المسلمين،
ولكنها لا تختص بأهل الدين منهم فهذه يجوز للمسلم لبسها، فمثلاً
اللباس المدني اليوم وهذه الأقمصة وهذه الدراعات التي نلبسها لم تكن
معروفة في العهد النبوي ولا معهودة لدى سكان الجزيرة العربية، وكانت
لباساً لقوم إذ ذاك غير مسلمين، ولكنها لم تكن لباساً دينياً فلذلك
جاز لبسها، ومثلها ربطة العنق فليست لباساً لقوم يرجع إلى تقاليدهم
الدينية، بل هي لباس مشترك بين رجال الدين وغيرهم، وأغلب رجال الدين
من النصارى واليهود لا يلبسونها فهي إذن ليست لباساً دينياً فيجوز
للمسلم لبسها، فكل ما ليس لباساً دينياً يجوز للمسلمين لبسه، ولذلك
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس اللباس المعهود لدى المشركين
في وقته، سواء كانوا من سكان جزيرة العرب أو من سواهم، فمن وجده مع
عمه أبي لهب لم يميز بينهما باللباس فلباسهما واحد.
وكذلك صح عنه في الصحيحين أنه لما عقد معه نصارى نجران عقد الجزية
صالحهم على أربعة آلاف حلة يرسلونها إليه في كل سنة، فكان يلبسها
ويهديها ويقسمها بين أصحابه، وهي من لباس النصارى لكن ليست لباساً
دينياً لهم، وصح في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فخرج لقضاء حاجته
خرج للمذهب فخرج معه يحمل إداوة فلما رجع إليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم جعل المغيرة يصب له على يديه وكان يلبس جبة رومية ضيقة،
فأراد أن يخرج يده منها ليغسلها فضاقت عليه فأدخل يده فأخرجها من
تحتها، فهذه الجبة كانت رومية، والروم إذ ذاك ليس فيهم مسلمون، فدل
هذا على أن لباس الحضارات الأخرى ولو كانت غير مسلمة فهو جائز ما لم
يكن لباساً دينياً لقوم يتعبدون الله بلبسه.
الضابط الرابع من هذه الضوابط أن يكون اللباس ليس تشبها بالنساء، فلا
يحل للرجل أن يلبس الملابس المختصة بالمرأة لما في ذلك من التشبه بها،
وهذا التشبه مخالف للشرع فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، ونهى عن التشبه باليهود
والنصارى، والمقصود بذلك ما كان في دينهم فهذا التشبه لا يجوز، فلا
يجوز للرجل أن يلبس لباس المرأة.
الضابط الخامس من هذه الضوابط: أن لا يكون اللباس متجاوزاً للكعبين،
فقد حدد نبينا صلى الله عليه وسلم نهاية لباس الرجل، فقال: إزرة
المؤمن إلى أنصاف ساقيه، وذكر أن ما أسفل من الكعبين في النار، وبين
أن من أسبل ثوبه خيلاء لم يرح رائحة الجنة، وهذا نهي صريح عن الإسبال،
وهذا النهي ينقسم إلى قسمين: إلى نهي مطلق، ونهي مقيد، فالنهي المطلق
هو في قوله: "ما أسفل من الكعبين في
النار"، والنهي المقيد هو قوله: "من
جر ثوبه خيلاء"، فقد قيده بالخيلاء.
وقد اختلف أهل العلم هل يُحمل المطلق على المقيد أم لا؟ فذهبت طائفة
منهم إلى أن النهي المطلق يحمل على النهي المقيد فيردان على محل واحد،
وعلى هذا فيجوز للإنسان أن يسبل تحت الكعبين إذا لم يكن بخيلاء إذا
فعل ذلك من غير خيلاء، وذهب آخرون إلى اعتبار الإطلاق في محله والقيد
في محله فرأوا أن الإطلاق باقٍ، فلا يجوز للإنسان أن يلبس ما أسفل من
الكعبين، وإذا كان مع خيلاء فهو محرم مرتين، محرم من أجل الإسبال لأنه
نهي عنه في الحديث الذي فيه: "ما أسفل من
الكعبين في النار"، ومحرم للخيلاء لأنه منهي عنه للحديث الذي
فيه: "من جر ثوبه خيلاء لم يرح رائحة
الجنة"، فإذن الإسبال من غير خيلاء حرام مرة واحدة، والإسبال
مع الخيلاء حرام مرتين على هذا القول.
وقد حدد أهل العلم مراتب ذلك فقالوا: ما بين نصف الساق إلى الكعب
جائز، وما كان على الكعب شبهة الورع تركها، وما كان أسفل من الكعبين
حرام، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في الحرم يصلي وهو مسبل
فأمره بإعادة الوضوء والصلاة، وقد أخرج أحمد ذلك في المسند، وقد ذهب
بعض أهل الظاهر إلى أن الإسبال مبطل للوضوء ومبطل للصلاة لأن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بإعادة الوضوء والصلاة، وذهب جمهور أهل
العلم إلى أن ذلك واقعة عين تختص بذلك الرجل فقد علم النبي صلى الله
عليه وسلم عن طريق الوحي أنه قد انتقض وضوؤه، أو أن لديه من الأمراض
القلبية ما يجعل وضوءه منتقضاً، فأمره بإعادة الوضوء والصلاة.
وهذا الضابط لا بد من مراعاته وبالأخص في اللباس المدني، فإن كثيراً
من الناس يلبسون الملابس المدنية فيتبعون فيها أعراف الأوروبيين
فيطيلونها فتتجاوز الكعبين، وهذا مما لا ينبغي فعلى الإنسان أن لا يصل
إزاره إلى كعبيه، وأن يكون فوقهما، وكذلك في لباس مجتمعنا، فإن كثيراً
من أفراد هذا المجتمع يسبلون في الثياب فيطيلون "الدراعة" فتكون عشرة
أمتار فيسبحها الإنسان معه إذا خرج، وهذا لا شك فيه سرف ومخيلة، وقد
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاباً من الأنصار يجر ثوبه فقال:
"ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى وأبقى"، أتقى لله وأنقى للثوب وأبقى له،
أطول عمراً له.
وجر الثياب وسحبها بالإضافة إلى كونه خيلاء وبالإضافة إلى كونه
تعريضاً للقذر فيه أيضا التعريض للثوب نفسه للضياع، لأن سحبه مؤد
لسرعة فنائه، فكان مع ذلك سفها، فمن يفعله يمكن أن تجرح شهادته لدى
القضاء، لسفهه.
فلذلك ينبغي أن نراجع ما يتعلق بتفصيل الملابس، وبالأخص أن الإسبال
أيضاً عند كثير من أهل العلم هو بتجاوز الإبهام، فالعرض كم الإنسان لا
ينبغي أن يتجاوز إبهامه، إذا وصل إلى الإبهام لا يتجاوزه، بعض أهل
العلم يرى أنه إلى الكوعين فقط، وبعضهم يرى أنه إلى الإبهام ولا
يتجاوزه، وكثير من الذين يلبسون هذه الدراريع يبالغون في عرضها حتى
تتجاوز الأصابع وهذا إسبال.
وقد جاء في الحديث أيضاً الإسبال في العمامة، فالعمامة ينبغي أن تكون
بقدرها المعهود فالزيادة فيها حتى تطال عذبتها أو تكثر أكورها كثرة
غير معتادة فيه إسبال فإذن لا بد من مراجعة ذلك.
وقد ألف العلامة الشيخ عبد الله ولد داداه رحمة الله عليهما كتاباً في
ثياب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب طبع، وقد جمع فيه
الأحاديث وذكر فيه القيود، فبين السنة التي جاءت عن النبي صلى الله
عليه وسلم فيما يتعلق بالثياب نوعاً وكمّاً، فعلى الإنسان أيضاً أن لا
يسرف في كثرة الملابس، وهذا ما نبه عليه الشيخ، فالنبي صلى الله عليه
وسلم كانت له ثياب معدودة، إذا احتاج إلى بعضها لبسه وما لم يحتج إليه
يتصدق به الإنسان يصرفه في مصارف أخرى.
الضابط السادس من هذه الضوابط أن يكون الثوب الملبوس غير سرف على
صاحبه، وهذا يختلف باختلاف الحال، فمن كان غنياً فثوبه قيمته لا يمكن
أن تساوي قيمة ثوب الفقير، لأن الثوب قد يكون سرفاً في حق الفقير وليس
سرفاً في حق الغني، ولذلك لا بد من مراعاة هذا الفرق، ومثل ذلك من كان
إماماً للمسجد أو خطيباً فيه أو كان معلماً يعلم الناس والمرأة ذات
الزوج، فهؤلاء يندب لهم تحسين الملابس، ولهذا قال العلامة محمد مولود
بن أحمد فال رحمة الله عليه:
ثم لباس الشرع تعتريه
الاحكام حتم منه ما يقيه
ما يقي الحر والبرد ويستر العورة هذا واجب، ثم قال:لباس موسر لباس معسر
شح وضد سرف ثوب السري
على الدني خيلا والضد
مهانة والمستجاد القصد
والعلما يندب حسن الزي
لهم ليعظموا لكف الغي
وحسنه يندب للمصلي
وللمؤذن وذات البعل
فهؤلاء يُندب لهم تحسين الملابس ولا سرف في ذلك في حقهم، أما من سواهم فعليه أن يقتصد على حسب حاله وأن لا يتطاول في الملابس، ومن هنا فالفقراء ينبغي أن يقتصدوا في الملابس وأن لا يتعودوا على السرف فيها فالسرف لا خير فيه، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وقد قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}، ومحمد مولود بن أحمد فال رحمة الله عليه يقول أيضاً:والسرف السرف إن السرفا
عنه نهى الله تعالى وكفى
ولا يحب المسرفين كافي
في كف كفك عن الإسراف
فالشيء الذي لا يحبه الله يكفي ذلك في كف كفك عنه.