رسالة في الدماء الطبيعية للنساء (3)

السؤال: رسالة في الدماء الطبيعية للنساء

الإجابة

الإجابة: .. الفصل الخامس ..
في الاستحاضة وأحكامها
الاستحاضة: استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً أو ينقطع عنها مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر.

فدليل الحالة الأولى التي لا ينقطع الدم فيها أبداً ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قالت فاطمة بنت حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لا أطهر، وفي رواية أستحاض فلا أطهر".

ودليل الحالة الثانية التي لا ينقطع الدم فيها إلا يسيراً حديث حمنة بنت جحش حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة". الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ونقل عن الإمام أحمد تصحيحه وعن البخاري تحسينه.

أحوال المستحاضة
للمستحاضة ثلاثة حالات:
- الحالة الأولى: أن يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة فهذه ترجع إلى مدة حيضها المعلوم السابق فتجلس فيها ويثبت لها أحكام الحيض، وما عداها استحاضة، يثبت لها أحكام المستحاضة.
مثال ذلك امرأة كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم طرأت عليها الاستحاضة فصار الدم يأتيها باستمرار، فيكون حيضها ستة أيام من أول كل شهر، وما عداها استحاضة لحديث عائشة رضي الله عنها: "أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: "يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: "لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" (رواه البخاري)، وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حبيبة بنت جحش: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي"، فعلى هذا تجلس المستحاضة التي لها حيض معلوم قدر حيضها ثم تغتسل وتصلي ولا تبالي بالدم حينئذ.

- الحالة الثانية: أن لا يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة بأن تكون الاستحاضة مستمرة بها من أول ما رأت الدم من أول أمرها، فهذه تعمل بالتمييز فيكون حيضها ما تميز بسواد أو غلظة أو رائحة يثبت له أحكام الحيض، وما عداه استحاضة يثبت له أحكام الاستحاضة.
مثال ذلك: امرأة رأت الدم في أول ما رأته، واستمر عليها لكن تراه عشرة أيام أسود وباقي الشهر أحمر. أو تراه عشرة أيام غليظاً وباقي الشهر رقيقاً. أو تراه عشرة أيام له رائحة الحيض وباقي الشهر لا رائحة له فحيضها هو الأسود في المثال الأول، والغليظ في المثال الثاني، وذو الرائحة في المثال الثالث، وما عدا ذلك فهو استحاضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا كان دم الحيضة فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق" (رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم)، وهذا الحديث وإن كان في سنده ومتنه نظر فقد عمل به أهل العلم رحمهم الله، وهو أولى من ردها إلى عادة غالب النساء.

- الحالة الثالثة: ألا يكون لها حيض معلوم ولا تمييز صالح بأن تكون الاستحاضة مستمرة من أول ما رأت الدم ودمها على صفة واحدة أو على صفات مضطربة لا يمكن أن تكون حيضاً، فهذه تعمل بعادة غالب النساء فيكو حيضها ستة أيام أو سبعة من كل شهر يبتدئ من أو المدة التي رأت فيها الدم، وما عداه استحاضة.
مثال ذلك: أن ترى الدم أو ما تراه في الخامس من الشهر ويستمر عليها من غير أن يكون فيه تمييز صالح للحيض لا بلون ولا غيره فيكون حيضها من كل شهر ستة أيام أو سبعة تبتديء من اليوم الخامس من كل شهر. لحديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: "يا رسول الله: إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام؟، فقال: "أنعت لك -أصف لك استعمال- الكرسف -وهو القطن- تضعينه على الفرج، فإنه يذهب الدم"، قالت: هو أكثر من ذلك. وفيه قال: "إنما هذا ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله تعالى، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعاً وعشرين أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي"، الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، ونقل عن أحمد أنه صححه، وعن البخاري أنه حسنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ستة أيام أو سبعة"، ليس للتخيير وإنما هو للاجتهاد فتنظر فيما هو أقرب إلى حالها ممن يشابهها خلقة ويقاربها سناً ورحماً وفيما هو أقرب إلى الحيض من دمها، ونحو ذلك من الاعتبارات فإن كان الأقرب أن يكون ستة جعلته ستة وإن كان الأقرب أن يكون سبعة جعلته سبعة.

حال من تشبه المستحاضة
قد يحدث للمرأة سبب يوجب نزيف الدم من فرجها كعملية في الرحم أو فيما دونه وهذه على نوعين:
- النوع الأول: أن يعلم أنها لا يمكن أن تحيض بعد العملية مثل أن تكون العملية استئصال الرحم بالكلية أو سده بحيث لا ينزل منه دم، فهذه المرأة لا يثبت لها أحكام المستحاضة، وإنما حكمها حكم من ترى صفرة أو كدرة أو رطوبة بعد الطهر، فلا تترك الصلاة ولا الصيام ولا يمتنع جماعها ولا يجب غسل من هذا الدم، ولكن يلزمها عند الصلاة غسل الدم وأن تعصب على الفرج خرقة، ونحوها، لتمنع خروج الدم، ثم تتوضأ للصلاة ولا تتوضأ لها إلا بعد دخول وقتها، إن كان لها وقت كالصلوات الخمس، وإلا فعند إرادة فعل الصلاة كالنوافل المطلقة.

- النوع الثاني: ألا يعلم امتناع حيضها بعد العملية بل يمكن أن تحيض، فهذه حكمها حكم المستحاضة. ويدل لما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم، لفاطمة بنت أبي حبيش: "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة"، فإن قوله: "فإذا أقبلت الحيضة"، يفيد أن حكم المستحاضة فيمن لها حيض ممكن ذو إقبال وإدبار، أما من ليس لها حيض ممكن فدمها دم عرق بكل حال.

أحكام الاستحاضة
عرفنا مما سبق متى يكون الدم حيضاً ومتى يكون استحاضة فمتى كان حيضاً ثبتت له أحكام الحيض، ومتى كان استحاضة ثبتت له أحكام الاستحاضة.
وقد سبق ذكر المهم من أحكام الحيض.
وأما أحكام الاستحاضة، فكأحكام الطهر، فلا فرق بين المستحاضة وبين الطاهرات إلا فيما يأتي:

- الأول: وجوب الوضوء عليها لكل صلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "ثم توضئي لكل صلاة" (رواه البخاري في باب غسل الدم)، معنى ذلك أنها لا تتوضأ للصلاة المؤقتة إلا بعد دخول وقتها.
أما إذا كانت الصلاة غير مؤقتة فإنها تتوضأ لها عند إرادة فعلها.

- الثاني: إنها إذا أرادت الوضوء فإنها تغسل أثر الدم، وتعصب على الفرج خرقة على قطن ليستمسك الدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة: "أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم"، قالت: فإنه أكثر من ذلك، قال: "فاتخذي ثوباً" قالت: هو أكثر من ذلك قال: "فتلجمي" الحديث، ولا يضرها ما خرج بعد ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "اجتنبي الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة، ثم صلي، وإن قطر الدم على الحصير" (رواه أحمد وابن ماجة).

- الثالث: الجماع فقد اختلف العلماء في جوازه إذا لم يخف العنت بتركه، والصواب جوازه مطلقاً لأن نساء كثيرات يبلغن العشر أو أكثر استحضن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمنع الله ولا رسوله من جماعهن، بل في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} (سورة البقرة، الآية 222 )، دليل على أنه لا يجب اعتزالهن فيما سواه، ولأن الصلاة تجوز منها، فالجماع أهون. وقياس جماعها على جماع الحائض غير صحيح، لأنهما لا يستويان حتى عند القائلين بالتحريم والقياس لا يصح مع الفارق.

.. الفصل السادس ..
في النفاس وحكمه
النفاس: دم يرخيه الرحم بسبب الولادة، إما معها أو بعدها أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الطلق.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما تراه حين تشرع في الطلق فهو نفاس ولم يقيده بيومين أو ثلاثة، ومراده طلق يعقبه ولادة وإلا فليس بنفاس".

واختلف العلماء هل له حد في أقله وأكثره؟
قال الشيخ تقي الدين في رسالته في الأسماء التي علق الشارع الأحكام بها ص 37: "والنفاس لا حد لأقله ولا لأكثره، فلو قدر أن امرأة رأت الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس لكن إن اتصل فهو دم فساد وحينئذ فالحد أربعون فإنه منتهى الغالب جاءت به الآثار".أ.ه.

قلت: وعلى هذا فإذا زاد دمها على الأربعين، وكان لها عادة بانقطاعه بعد أو ظهرت فيه أمارات قرب الانقطاع انتظرت حتى ينقطع وإلا اغتسلت عند تمام الأربعين، لأنه الغالب إلا أن يصادق زمن حيضها فتجلس حتى ينتهي زمن الحيض، فإذا انقطع بعد ذلك فينبغي أن يكون كالعادة لها فتعمل بحسبة في المستقبل، وإن استمر فهي مستحاضة، ترجع إلى أحكام المستحاضة السابقة، ولو طهرت بانقطاع الدم عنها فهي طاهر ولو قبل الأربعين، فتغتسل وتصلي وتصوم ويجامعها زوجها، إلا أن يكون الانقطاع أقل من يوم فلا حكم له، قاله في المغني.

ولا يثبت النفاس إلا إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان، فلو وضعت سقطاً صغيراً لم يتبين فيه خلق إنسان فليس دمها دم نفاس، بل هو دم عرق فيكون حكمها حكم المستحاضة، وأقل مدة تبين فيها خلق إنسان ثمانون يوماً من ابتداء الحمل وغالباً تسعون يوماً. قال المجد ابن تيمية: "فمتى رأت دماً على طلق قبلها لم تلتفت إليه وبعدها تمسك عن الصلاة والصيام، ثم إن انكشف الأمر بعد الوضع على خلاف الظاهر رجعت فاستدركت، وإن لم ينكشف الأمر استمر حكم الظاهر فلا إعادة". نقله عنه في شرح الإقناع.

أحكام النفاس
أحكام النفاس كأحكام الحيض سواء بسواء، إلا فيما يأتي:
- الأول: العدة فتعتبر بالطلاق دون النفاس لأنه إن كان الطلاق قبل وضع الحمل انقضت العدة بوضعه لا بالنفاس، وإن كان الطلاق بعد الوضع انتظرت رجوع الحيض كما سبق.

- الثاني: مدة الإيلاء يحسب منها مدة الحيض ولا يحسب منها مدة النفاس.
والإيلاء: أن يحلف الرجل على ترك جماع امرأته أبداً أو مدة تزيد على أربعة أشهر، فإذا حلف وطالبته بالجماع جعل له مدة أربعة أشهر من حلفه، فإذا تمت أجبر على الجماع أو الفراق بطلب الزوجة، فهذه المدة إذا مر بالمرأة نفاس لم يحسب على الزوج، وزيد على الشهور الأربعة بقدر مدته، بخلاف الحيض فإن مدته تحسب على الزوج.

- الثالث: البلوغ يحصل بالحيض ولا يحصل بالنفاس، لأن المرأة لا يمكن أن تحمل حتى تنزل فيكون حصول البلوغ بالإنزال السابق للحمل.

- الرابع: أن دم الحيض إذا انقطع ثم عاد في العادة فهو حيض يقيناً، مثل أن تكون عادتها ثمانية أيام، فترى الحيض أربعة أيام ثم ينقطع يومين ثم يعود في السابع والثامن، فهذا العائد حيض يقيناً يثبت له أحكام الحيض، وأما دم النفاس، إذا انقطع قبل الأربعين ثم عاد في الأربعين فهو مشكوك فيه فيجب عليها أن تصلي وتصوم الفرض المؤقت في وقته ويحرم عليها ما يحرم على الحائض غير الواجبات وتقضي بعد طهرها ما فعلته في هذا الدم مما يجب على الحائض قضاؤه. هذا هو المشهور عند الفقهاء من الحنابلة والصواب أن الدم إذا عاودها في زمن يمكن أن يكون نفاساً فهو نفاس، وإلا فهو حيض إلا أن يستمر عليها فيكون إستحاضة وهذا قريب مما نقله في المغني (1: 349 ) عن الإمام مالك حيث قال: وقال مالك: "إن رأت الدم بعد يومين أو ثلاثة يعني من انقطاعه فهو نفاس وإلا فهو حيض".أ.ه، وهو مقتضى اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وليس في الدماء شيء مشكوك فيه بحسب الواقع، ولكن الشك أمر نسبي يختلف فيه النساء بحسب علومهم وأفهامهم. والكتاب والسنة فيهما تبيان كل شيء، ولم يوجب الله سبحانه على أحد أن يصوم مرتين، أو يطوف مرتين، إلا أن يكون في الأول خلل لا يمكن تداركه إلا بالقضاء، أما حيث فعل العبد ما يقدر عليه من التكليف بحسب استطاعته فقد برئت ذمته، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} (سورة البقرة، الآية 286 )، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (سورة التغابن، الآية 16 ).

- الخامس: أنه في الحيض إذا طهرت قبل العادة جاز لزوجها جماعها بدون كراهة. وأما في النفاس إذا طهرت قبل الأربعين فيكره لزوجها جماعها على المشهور في المذهب، والصواب أنه لا يكره له جماعها. وهو قول جمهور العلماء، لان الكراهة حكم الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص أنها أتته قبل الأربعين، فقال لا تقربيني. وهذا لا يستلزم الكراهة لأنه قد يكون منه على سبيل الاحتياط خوفاً من أنها لم تتيقن الطهر، أو من أن يتحرك الدم بسبب الجماع، أو لغير ذلك من الأسباب، والله أعلم.

.. الفصل السابع ..
في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه، وما يمنع الحمل أو يسقطه
استعمال المرأة ما يمنع حيضها جائز بشرطين:

- الأول: ألا يخشى الضرر عليها، فإن خشي الضرر عليها من ذلك فلا يجوز لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (سورة البقرة، الآية 195 )، {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (سورة النساء، الآية 29 ).

- الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجب عليه نفقتها، فتستعمل ما يمنع الحيض لتطول المدة وتزداد عليه نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع الحيض حينئذ إلا بإذنه، وكذلك إن ثبت أن منع الحيض يمنع الحمل فلا بد من إذن الزوج، وحيث ثبت الجواز فالأولى عدم استعماله، إلا لحاجة لأن ترك الطبيعة على ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة فالسلامة.

* وأما استعمال ما يجلب الحيض فجائز بشرطين أيضاً:

- الأول: ألا تتحيل به على إسقاط واجب، مثل أن تستعمله قرب رمضان، من أجل أن تفطر أو لتسقط به الصلاة، ونحو ذلك.

- الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج، لأن حصول الحيض يمنعه من كمال الاستمتاع، فلا يجوز استعمال ما يمنع حقه إلا برضاه، وإن كانت مطلقة، فإن فيه تعجيل إسقاط حق الزوج من الرجعة إن كان له رجعة.

* وأما استعمال ما يمنع الحمل فعلى نوعين:
- لأول: أن يمنعه منعاً مستمراً فهذا لا يجوز، لأنه يقطع الحمل فيقل النسل، وهو خلاف مقصود الشارع، من تكثير الأمة الإسلامية، ولأنه لا يؤمن أن يموت أولادها الموجودون فتبقى أرملة لا أولاد لها.

- الثاني: أن يمنعه منعاً مؤقتاً، مثل أن تكون المرأة كثيرة الحمل، والحمل يرهقها، فتحب أن تنظم حملها كل سنتين مرة أو نحو ذلك فهذا جائز، بشرط أن يأذن به زوجها وألا يكون به ضرر عليها، ودليله أن الصحابة كانوا يعزلون عن نسائهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ألا تحمل نساؤهم، فلم ينهوا عن ذلك. والعزل أن يجامع زوجته وينزع عند الإنزال فينزل خارج الفرج.

* وأما استعمال ما يسقط الحمل فهو على نوعين:
- الأول: أن يقصد من إسقاطه إتلافه، فهذا إن كان بعد نفخ الروح فيه فهو حرام، بلا ريب، لأنه قتل نفس محرمة بغير حق وقتل النفس المحرمة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وإن كان قبل نفخ الروح فيه فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من قال يجوز ما لم يكن علقه، أي ما لم يمض عليه أربعون يوماً، ومنهم من قال يجوز ما لم يتبين فيه خلق إنسان.
والأحوط المنع من إسقاطه إلا لحاجة كأن تكون الأم مريضة لا تتحمل الحمل أو نحو ذلك، فيجوز إسقاطه حينئذ إلا إن مضى عليه زمن يمكن أن يتبين فيه خلق إنسان فيمنع. والله أعلم.

- الثاني: ألا يقصد من إسقاطه إتلافه بأن تكون محاولة إسقاطه عند انتهاء مدة الحمل وقرب الوضع فهذا جائز، بشرط ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، ولا على الولد، وألا يحتاج الأمر إلى عملية، فإن احتاج إلى عملية فله حالات أربع:

- الأولى: أن تكون الأم حية والحمل حياَ، فلا تجوز العملية إلا للضرورة، بأن تتعسر ولادتها فتحتاج إلى عملية، وذلك لأن الجسم أمانة عند العبد، فلا يتصرف فيه بما يخشى منه إلا لمصلحة كبرى؛ ولأنه ربما يظن ألا ضرر في العملية فيحصل الضرر.

- الثاني: أن تكون الأم ميتة والحمل ميتاً، فلا يجوز إجراء العملية لإخراجه لعدم الفائدة.

- الثالثة: أن تكون الأم حية والحمل ميتاً، فيجوز إجراء العملية لإخراجه، إلا أن يخشى الضرر على الأم لأن الظاهر -والله أعلم- أن الحمل إذا مات لا يكاد يخرج بدون العملية، فاستمراره في بطنها يمنعها من الحمل المستقبل، ويشق عليها، وربما تبقى أيماً إذا كانت معتدة من زوج سابق.

- الرابع: أن تكون الأم ميتة والحمل حياً، فإن كان لا ترجى حياته لم يجز إجراء العملية، وإن كان ترجى حياته، فإن كان قد خرج بعضه شق بطن الأم لإخراج باقيه، وإن لم يخرج منه شيء، فقد قال أصحابنا رحمهم الله لا يشق بطن الأم لإخراج الحمل، لأن ذلك مثله، والصواب أنه يشق البطن إن لم يكن إخراجه بدونه، وهذا اختيار ابن خبيرة قال في الإنصاف (2: 556 )، وهو أولى.
قلت: ولا سيما في وقتنا هذا فإن إجراء العملية ليس بمثله، لأنه يشق البطن ثم يخاط، ولأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ولأن إنقاذ المعصوم من الهلكة واجب. والحمل إنسان معصوم فوجب إنقاذه. والله أعلم.

تنبيه: في الحالات التي يجوز فيها إسقاط الحمل فيما لابد من إذن من له الحمل في ذلك كالزوج.

وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا الموضوع المهم، وقد اقتصرنا فيه على أصول المسائل وضوابطها وإلا ففروعها وجزئياتها وما يحدث للنساء من ذلك بحر لا ساحل له، ولكن البصير يستطيع أن يرد الفروع إلى أصولها والجزئيات إلى كلياتها وضوابطها، ويقيس الأشياء بنظائرها.

وليعلم المفتي بأنه واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ ما جاءت به رسله، وبيانه للخلق، وأنه مسئول عما في الكتاب والسنة، فإنهما المصدران اللذان كلف العبد فهمهما، والعمل بهما، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو خطأ، يجب رده على قائله، ولا يجوز العمل به، وإن كان قائله قد يكون معذوراً مجتهداً فيؤجر على اجتهاده لكن غيره العالم بخطئه لا يجوز له قبوله.

ويجب على المفتي أن يخلص النية لله تعالى، ويستعين به في كل حادثة تقع به، ويسأله تعالى الثبات والتوفيق للصواب.

ويجب عليه أن يكون موضع اعتباره ما جاء في الكتاب والسنة، فينظر ويبحث في ذلك أو فيما يستعان به من كلام أهل العلم على فهمهما.

وإنه كثيراً ما تحدث مسألة من المسائل، فيبحث عنها الإنسان فيما يقدر عليه من كلام أهل العلم، ثم لا يجد ما يطمئن إليه في حكمها، وربما لا يجد لها ذكراً بالكلية، فإذا رجع إلى الكتاب والسنة، تبين له حكمهما قريباً ظاهراً وذلك بحسب الإخلاص والعلم والفهم.

* ويجب على المفتي أن يتريث في الحكم عند الإشكال، وألا يتعجل، فكم من حكم تعجل فيه، ثم تبين له بعد النظر القريب، أنه مخطئ فيه، فيندم على ذلك، وربما لا يستطيع أن يستدرك ما أفتى به.

والمفتي إذا عرف الناس منه التأني والتثبت وثقوا بقوله واعتبروه، وإذا رأوه متسرعاً، والمتسرع كثير الخطأ، لم يكن عندهم ثقة فيما يفتي به فيكون بتسرعه وخطئه قد حرم نفسه وحرم غيره ما عنده من علم وصواب.

نسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم. وأن يتولانا بعنايته، ويحفظنا من الزلل برعايته، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم، على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

. الجزء الأول .

. الجزء الثاني .

. الجزء الثالث .