فصلٌ تابع لمسألة قوم خصوا بالسعادة

السؤال: فصلٌ تابع لمسألة قوم خصوا بالسعادة

الإجابة

الإجابة: فصل:

لأنه ما وجد في الأمر ولو وجد بالفكر وهذا مثل مالم ترد الشريعة به كأمر الأطفال ومن لا عقل له والأعمى البصر، والفقير النفقة، والزمن أن يسير إلى مكة، فكل ذلك ما جاءت به الشريعة، ولو جاءت به لزم الإيمان به والتصديق فلا يقيد الكلام فيه‏.‏

قال‏:‏ وذهبت طائفة من أصحابنا إلى إطلاق الاسم من جواز تكليف ما لا يطاق من زمن وأعمى وغيرهم، وهو مذهب جهم وبرغوث‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ سلامة الآلة، لكن عدم الطاقة لعدم التوفيق والقبول، وذلك يجوز وجها واحداً في معنى هذا أنه يجوز التكليف لمن قدر علم الله فيه أنه لا يفعله، وأبي ذلك المعتزلة والدليل عليه قوله تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏‏مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏‏ الآيات ‏[‏الأعراف‏:‏12‏]‏، فأمر وقد سبق من علمه أنه لا يقع منه فعله، فكان الأمر متوجهاً إلي ما قد سبق من علم الله أنه لا يطيقه‏.

‏‏ القول الثاني‏:‏ منقول عن أبى الحسن أيضاً، وزعم أبو المعالي الجويني أنه الذي مال إليه أكثر أجوبة أبي الحسن، وأنه الذي ارتضاه كثير من أصحابه، وقد توقف أبو الحسن عن الجواب في هذه المسألة في الموجز، وكان أبو المعالي يختاره أولا، ثم رجع عنه وقطع أن تكليف مالا يطاق محال، وهذا القول الأول قول ابن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي عبد الله الرازي وغيره، وهذا الثاني هو مذهب أبي إسحاق الإسفرائيني وأبي بكر بن فورك، وأبي القاسم الأشعري، والغزالي، وادعى أبو إسحاق الإسفرائيني أنه مذهب شيخه أبي الحسن، وأنه مذهب أهل الحق، فأما القاضي أبو بكر فقد قال‏:‏ بجوازه في بعض كتبه، وأكثر كلامه على التفريق بين تكليف العاجز، وبين تكليف القادر على الترك، كما هو قول الجمهور‏.‏

وفي المسألة قول ثالث‏:‏ وهو الذي ذكره أبو بكر عبد العزيز أنه يجوز تكليف كل ما يمكن وإن كان ممتنعاً في العادة كالمشي على الوجه، ونقط الأعمى المصحف دون الممتنع كالجمع بين الضدين‏.

‏‏ وفصل الخطاب في هذه المسألة‏:‏ إن النزاع فيها في أصلين‏:‏

أحدهما‏:‏ التكليف الواقع الذي اتفق المسلمون علي وقوعه في الشريعة وهو أمر العباد كلهم بما أمرهم الله به ورسوله من الإيمان به وتقواه هل يسمى هذا أو شيء منه تكليف ما لا يطاق ‏؟‏ فمن قال‏:‏ بأن القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول‏:‏ إن العاصي كلف مالا يطيقه، ويقول‏:‏ إن كل أحد كلف حين كان غير مطيق، وكذلك من زعم أن تقدم العلم والكتاب بالشيء يمنع أن يقدر على خلافه، وقال‏:‏ إن كلف خلاف المعلوم فقد كلف ما لا يطيقه، وكذلك من يقول‏:‏ إن العرض لا يبقى زمانين، يقول‏:‏ إن الاستطاعة المتقدمة لا تبقى إلى حين الفعل‏.‏

وهذا في الحقيقة ليس نزاعاً في الأفعال التي أمر الله بها ونهى عنها، هل يتناولها التكليف‏؟‏ وإنما هو نزاع في كونها غير مقدورة للعبد التارك لها وغير مقدورة قبل فعلها، وقد قدمنا أن القدرة نوعان، وأن من أطلق القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فإطلاقه مخالف لما ورد في الكتاب والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كإطلاق القول بالجبر وإن كان قد أطلق ذلك طوائف من المنتسبين إلى السنة في ردهم على القدرية من المنتسبين إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كأبي الحسن، وأبي بكر عبد العزيز، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم، فقد منع من هذا الإطلاق جمهور أهل العلم كأبي العباس ابن سريج، وأبي العباس القلانسي، وغيرهما، ونقل ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وهو مقتضى قول جميع الأمة‏.

‏‏ ولهذا امتنع أبو إسحاق بن شاقلا من إطلاق ذلك، وحكى فيه القولين‏:‏ فقال‏:‏ فيما ذكره عنه القاضي أبو يعلى‏:‏ الاستطاعة مع الفعل أو قبله، حجة من قال‏:‏ إن الصلاة والحج والجهاد، لا يجوز أن يأمر به غير مستطيع، وحجة من قال‏:‏ إن الفعل خلق من خلق الله عز وجل، فإذا خلق فيه فعلاً فعله‏.‏

وهذا كما أن من قال‏:‏ إنه ليس للعبد إلا قدرة واحدة يقدر بها على الفعل والترك، وأنه مستغن في حال الفعل عن معونة من الله تعالى يفعل بها، وسوى بين نعمته على المؤمن والكافر والبر والفاجر، فهو مبطل وهم من القدرية الذين حاد منهم في الأيام المشهورة حيث كان قولهم‏:‏ إن العبد لا يفتقر إلى الله تعالى حال الفعل بالبر عما وجد قبل الفعل وأنه ليس لله تعالى نعمة أنعم بها على من آمن به وأطاعه أكبر من نعمته علي من كفر به وعصاه، فهذا القول خطأ قطعاً؛ ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على تضليل صاحب هذا القول ‏.

‏‏ ثم النزاع بينهم بعد ذلك في هذه الأمور كثير‏:‏ منه لفظي، ومنه ما هو اعتباري، كتنازعهم في أن العرض هل يبقى أم لا يبقى، وبنوا على ذلك بقاء الاستطاعة، ولكن أحسن الألفاظ والاعتبارات ما يطابق الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمتها والواجب أن يجعل نصوص الكتاب والسنة هي الأصل المعتمد الذي يجب إتباعه ويسوغ إطلاقه، ويجعل الألفاظ حتى تنازع فيها الناس نفياً أو إثباتاً موقوفة على الاستفسار والتفصيل، ويمنع من إطلاق نفي ما أثبته الله ورسوله، وإطلاق إثبات ما نفى الله ورسوله‏.

‏‏ والأصل الثاني‏:‏ فيما اتفق الناس على أنه غير مقدور للعبد، وتنازعوا في جواز تكليفه، وهو نوعان‏:‏ ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران ونحو ذلك، وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، فهذا في جوازه عقلاً ثلاثة أقوال كما تقدم، وأما وقوعه في الشريعة وجوازه شرعاً فقد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع في الشريعة، وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد منهم أبو الحسن بن الزاغوني.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.