تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات

السؤال: تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات

الإجابة

الإجابة: و‏[‏ابن سينا‏]‏ تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية‏.‏ وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض‏.‏

وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا كبارًا وصغارًا، وجاهدوهم باللسان واليد؛ إذ كانوا بذلك أحق من اليهود والنصارى‏.‏

ولو لم يكن إلا كتاب ‏[‏كشف الأسرار وهتك الأستار‏]‏ للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، وكتاب عبد الجبار بن أحمد، وكتاب أبي حامد الغزالي، وكلام أبي إسحاق، وكلام ابن فورك، والقاضي أبي يعلي، والشهرستاني، وغير هذا مما يطول وصفه‏.

‏‏ والمقصود هنا أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتعل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة؛ كأرسطو وأتباعه؛ فإن أولئك ليس عندهم من العلم باللّه إلا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه‏.‏

وقد ذكرت كلام أرسطو نفسه الذي ذكره في ‏[‏علم ما بعد الطبيعة‏]‏ في ‏[‏مقالة اللام‏]‏ وغيرها، وهو آخر منتهى فلسفته وبينت بعض ما فيه من الجهل، فإنه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الإلهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى وأهل البدع من المسلمين وغيرهم أجهل من هؤلاء، ولا أبعد عن العلم بالله تعالى منهم‏.

‏‏ نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم قد يقصدون الحق، لا يظهر عليهم العناد، لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ‏.

‏‏ وابن سينا لما عرف شيئًا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه، ومما أحدثه مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود، ونحو ذلك، وإلا فأرسطو وأتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود، ولا شيء من الأحكام التي لواجب الوجود، وإنما يذكرون ‏[‏العلة الأولى‏]‏ ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به‏.

‏‏ فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح، حتى راجت على من يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصار يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض، فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده، ولكن سلموا لهم أصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات، ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل، فصار ذلك سببًا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية، ومقاصد سامية قرآنية، خرجوا بها عن حقيقة العلم والإيمان، وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون، بل يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات‏.

‏‏ والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم، كما زعموه، مع أنه قول باطل، فإن النفس لها قوتان‏:‏ قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلابد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته، وعبادته تجمع محبته والذل له، فلا تكمل نفس فقط إلا بعبادة الله وحده لا شريك له‏.

‏‏ والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له، وبهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب الإلهية كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له‏.

‏‏ وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل، مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية، فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم، ولذلك يرون هذا ساقطا عمن حصل المقصود، كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ومن دخل في الإلحاد أو بعضه، وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم‏.

‏‏ فالجهمية قالوا‏:‏ الإيمان مجرد معرفة الله‏.‏

وهذا القول وإن كان خيرًا من قولهم فإنه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله‏.

‏‏ وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولواحقه، وهذا أمر لو كان له حقيقة في الخارج، لم يكن كمالا للنفس إلا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى‏.

‏‏ فهؤلاء الجهمية من أعظم المبتدعة، بل جعلهم غير واحد خارجين عن الثنتين وسبعين فرقة، كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وهو قول طائفة من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم‏.‏

وقد كفر غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما من يقول هذا القول‏.

‏‏ وقالوا‏:‏ هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون واليهود الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم مؤمنين‏.

‏‏ فقول الجهمية خير من قول هؤلاء، فإن ما ذكروه هو أصل ما تكمل به النفوس، لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين إرادتها التي هي مبدأ القوة العملية، وجعلوا الكمال في نفس العلم، وإن لم يصدقه قول ولا عمل ولا اقترن به من الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك مما هو من أصول الإيمان ولوازمه‏.

‏‏ وأما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد‏.‏

والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط، وإنما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب أصولهم الفاسدة‏.

‏‏ واعلم أن بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض، لا يستلزم كونهم أشقياء في الآخرة إلا إذا بعث الله إليهم رسولا فلم يتبعوه، بل يعرف به أن من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم إلى طريق هؤلاء، كان من الأشقياء في الآخرة ‏.

والقوم لولا الأنبياء لكانوا أعقل من غيرهم، لكن الأنبياء جاؤوا بالحق وبقاياه في الأمم وإن كفروا ببعضه، حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين إبراهيم، فكانوا خيرًا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون أرسطو وأمثاله على أصولهم‏.

‏‏ الوجه الخامس ‏:‏أنه إن كان المطلوب بقياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة، فتلك ليس فيها ما هو واجب البقاء على حال واحدة أزلًا وأبدًا، بل هي قابلة للتغير والاستحالة وما قدر أنه من اللازم لموصوفه، فنفس الموصوف ليس واجب البقاء، فلا يكون العلم به علمًا بموجود واجب الوجود، وليس لهم على أزلية شيء من العالم دليل صحيح، كما بسط في موضعه، وإنما غاية أدلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة‏.

‏‏ وذلك ممكن بوجود عين بعد عين من ذلك النوع أبدًا، مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم، كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح، فإن القول بأن المفعول المعين مقارن لفاعله أزلا وأبدا مما يقضي صريح العقل بامتناعه، أي شيء قدر فاعله، لاسيما إذا كان فاعلا باختياره، كما دلت عليه الدلائل اليقينية ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة أصول العلم والدين؛ كالرازي وأمثاله كما بسط في موضعه‏.‏

وما يذكرون من اقتران المعلول بعلته، فإذا أريد بالعلة، ما يكون مبدعًا للمعلول، فهذا باطل بصريح العقل؛ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي لم تفسد بالتقليد الباطل‏.

‏‏ ولما كان هذا مستقرًا في الفطر، كان نفس الإقرار بأنه خالق كل شيء موجبا لأن يكون كل ما سواه محدثًا مسبوقًا بالعدم، وإن قدر دوام الخالقية المخلوق بعد مخلوق، فهذا لا ينافى أن يكون خالقًا لكل شيء، وما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه، بل ذلك أعظم في الكمال والجود والأفضال‏.

‏‏ وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد، وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل في شيء، بل هو من باب المشروط، والشرط قد يقارن المشروط، وأما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين، وإن لم يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد شيء، فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة، وذلك لا ينافى حدوث كل جزء من أجزائها، بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه‏.

‏‏ وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الأمم حتى أرسطو وأتباعه، فإنهم وإن قالوا بقدم العالم، فهم لم يثبتوا له مبدعًا، ولا علة فاعلية، بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها، لأن حركة الفلك إرادية‏.

‏‏ وهذا القول، وهو أن الأول ليس مبدعًا للعالم، وإنما هو علة غائية للتشبه به، وإن كان في غاية الجهل والكفر، فالمقصود أنهم وافقوا سائر العقلاء في أن الممكن المعلول لا يكون قديمًا بقدم علته، كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه؛ ولهذا أنكر هذا القول ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة أرسطو وسائر العقلاء في ذلك، وبينوا أن ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء، وكان قصده أن يركب مذهبًا من مذاهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب، مع كونه أزليًا قديمًا بقدمه‏.‏

واتبعه على إمكان ذلك أتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي والرازي والآمدي والطوسي وغيرهم‏.

‏‏ وزعم الرازي فيما ذكره في محصله أن القول بكون المفعول المعلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة المتقدمون الذين نقلت إلينا أقوالهم؛ كأرسطو وأمثاله‏.

‏‏ وإنما قاله ابن سينا وأمثاله‏.

‏‏ والمتكلمون إذ قالوا بقدم ما يقوم بالقديم من الصفات ونحوها، فلا يقولون‏:‏ إنها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة، بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم، فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب قديمًا إلا بصفاته اللازمة له، كما قد بسط في موضعه‏.

‏‏ ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله‏.

‏‏ وكذلك أساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع أن يكون الممكن لم يزل واجبًا، سواء قيل‏:‏إنه واجب بنفسه أو بغيره‏.‏

ولكن ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أن الممكن قد يكون قديمًا واجبًا بغيره أزليا أبديًا كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في ‏[‏الإمكان‏]‏ من الأسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم أن يجيبوا عنه، كما بسط في موضعه‏.‏ فإن هذا ليس موضع تقرير هذا، ولكن نبهنا به على أن برهانهم القياسي لا يفيد أمورًا كلية واجبة البقاء في الممكنات‏.‏

وأما واجب الوجود تبارك وتعالى فالقياس لا يدل على ما يختص به، وإنما يدل على أمر مشترك كلي بينه وبين غيره، إذ كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس إلا أمورًا كلية مشتركة، وتلك لا تختص بواجب الوجود رب العالمين سبحانه وتعالى فلم يعرفوا ببرهانهم شيئًا من الأمور التي يجب دوامها، لا من الواجب ولا من الممكنات‏.

‏‏ وإذا كانت النفس إنما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه، لم يستفيدوا ببرهانهم ما تكمل به النفس من العلم، فضلا عن أن يقال‏:‏ إن ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل إلا ببرهانهم، ولهذا كانت طريقة الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته‏.‏

وإن استعملوا في ذلك ‏[‏القياس‏]‏، استعملوا قياس الأولى، لم يستعملوا قياس شمول تستوى أفراده، ولا قياس تمثيل محض، فإن الرب تعالى لا مثيل له، ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوى أفراده، بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه، فثبوته له بطريق الأولي‏.‏

وما تنزه غيره عنه من النقائص، فتنزهه عنه بطريق الأولى؛ ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القرآن من هذا الباب، كما يذكره في دلائل ربوبيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وإمكان المعاد، وغير ذلك من المطالب العالية السنية، والمعالم الإلهية التي هي أشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف، وإن كان كمالها لابد فيه من كمال علمها وقصدها جميعًا، فلابد من عبادة الله وحده، المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له‏.‏

وأما استدلاله تعالى بالآيات فكثير في القرآن.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء التاسع.