يخرجون يوم الجمعة للنزهة هل تجب عليهم صلاة الجمعة؟

السؤال: يَكثر خروج الناس يومي الخميس والجمعة، وخروجهم في هذين اليومين يكون للنزهة فقط. فهل الذي يخرج في ذلك اليوم، ويبعد عن بلاده مسافةَ قَصْر، لكنه حَوْل بلاد تقام فيها صلاة الجمعة. فهل تجب عليه صلاة الجمعة؟ وهل يأثم إذا تركها أم لا؟ أرجو الإفادة، أثابكم الله.

الإجابة

الإجابة: ينبغي لنا قبل الجواب على السؤال أن نذكر شيئا مما ذكره العلماء رحمهم الله عن يوم الجمعة؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد شرع لكل أمة في الأسبوع يوما يتفرغون فيه للعبادة، ويجتمعون فيه؛ لتذكر المبدأ والمعاد والثواب والعقاب، ويتذكرون به اجتماعهم يوم الجَمْع الأكبر قياما بين يدي رب العالمين.

وكان أحق الأيام بهذا هو اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق؛ وذلك يوم الجمعة، فادخره الله لهذه الأمة؛ لفضلها وشرفها، فشرع اجتماعهم في هذا اليوم، وقدّر اجتماعهم فيه مع الأمم؛ لنيل كرامته، فهو يوم الاجتماع شرعا في الدنيا وقَدَرا في الآخرة، وفي مقدار انتصافه -وقت الخطبة والصلاة- يكون أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم، كما ورد عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم (1).

فالله تعالى قد جعل لأهل كل ملة يوما يتفرغون فيه للعبادة، لا للهو واللعب، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا. فيوم الجمعة يوم عبادة. وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور. وساعة الاستجابة فيه كليلة القدر في رمضان؛ ولهذا من صح له يوم جمعته وسَلِمَ سلمت له سائر أيام أسبوع جمعته. ومن صح له رمضان وسَلِم سلمت له سائر شهور سنته. ومن صحت له حَجّته وسلمت له صح له سائر عمره. فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر. فهذا اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه العبد للعبادة. وله على سائر الأيام ميزة بأنواع العبادات الواجبة والمستحبة (2).

قال ابن القيم (3): ولما كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلا من القربان، وقائما مقامه؛ فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان، كما في (الصحيحين) (4) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة".

ومن أعظم شعائر هذا اليوم صلاة الجمعة (5) التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين. وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضه -سوى مجمع عرفة- ومن تركها تهاونا بها طبع الله على قلبه. وقُرْبُ أهل الجنة يوم القيامة من ربهم، وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قُرْبهم من الإمام يوم الجمعة، وتبكيرهم إليها. وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأت نظيره إلا في صلاة العصر، كما روى الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة (6) من حديث أبي الجعد الضمري -وكانت له صحبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك ثلاث جُمَع تهاونا بها طبع الله على قلبه"، قال الترمذي: حديث حسن. وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان (7): "من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق"، وفي أخرى لرزين (8): "فقد برئ منه الله"، وروى أحمد بإسناد حسن، وابن ماجه بإسناد جيد، والحاكم وصححه (9): "من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه"، زاد البيهقي (10): "وجعل قلبه قلب منافق"، وفي رواية لها شواهد (11): "كتب من المنافقين"، وفي أخرى سندها صحيح عن ابن عباس موقوفة (12): "فقد نبذ الإسلام وراء ظهره".

وروى مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونُن من الغافلين" (13).

وقد جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر لمن تركها أن يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار (رواه أبو داود والنسائي (14) من رواية قدامة ابن وبرة عن سمرة بن جندب)، ولكن قال أحمد: قدامة بن وبرة لا يعرف. وقال يحيى ابن معين: ثقة. وحكي عن البخاري: أنه لا يصح سماعه من سمرة.

وقال ابن القيم (15): وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره. وقد اختلف العلماء هل هو أفضل أم يوم عرفة؟ على قولين: هما وجهان لأصحاب الشافعي. وهو يوم عيد متكرر في الأسبوع، وقد روى أبو عبد الله بن ماجه في سننه (16) من حديث أبي لبابة ابن عبد المنذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله. وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر. فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدمَ، وفيه ساعة لا يسأل الله العبدُ فيها شيئًا إلا أعطاه، ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما مِن مَلَكٍ مقرّب، ولا سماءٍ، ولا أرضٍ، ولا رياحٍ، ولا جبالٍ، ولا شجرٍ (17) إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة"، ثم قال (18): ولا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها. وأما قبله فللعلماء ثلاثة أقوال؛ وهي روايات منصوصات عن أحمد. أحدها: لا يجوز. والثاني: يجوز. والثالث: يجوز للجهاد خاصة.

وأما مذهب الشافعي رحمه الله فيحرم عنده إنشاء السفر يوم الجمعة بعد الزوال. ولهم في سفر الطاعة وجهان. أحدهما: تحريمه، وهو اختيار النووي. والثاني: جوزاه، وهو اختيار الرافعي. وأما السفر قبل الزوال فللشافعي فيه قولان: القديم: جوازه. والجديد: أنه كالسفر بعد الزوال.

وأما مذهب مالك، فقال صاحب (التفريع): ولا يسافر أحد يوم الجمعة بعد الزوال حتى يصليَ الجمعة. ولا بأس أن يسافر قبل الزوال. والاختيار: أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى يصلي الجمعة.

وذهب أبو حنيفة إلى جواز السفر مطلقا. وقد روى الدارقطني في (الأفراد) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يُصْحَبَ في سفره"، وهو من حديث ابن لهيعة (19).

وذكر عبد الرزاق عن معمر قال: سألت يحيى بن أبي كثير هل يخرج الرجل يوم الجمعة؟ فكرهه. فجعلت أحدثه بالرخصة فيه. فقال لي: قلما يخرج رجل في يوم الجمعة إلا رأى ما يكرهه (20)، لو نظرت في ذلك وجدته كذلك (21). وذكر ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: إذا سافر الرجل يوم الجمعة دعا عليه النهار أن لا يعان على حاجته، ولا يصاحب في سفره. وذكر الأوزاعي عن ابن المسيب أنه قال: السفر يوم الجمعة بعد الصلاة (22). قال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أنه كان يقال: إذا أمسى في قرية جامعة من ليلة الجمعة، فلا يذهب حتى يُجَمِّع؟ قال: إن ذلك ليُكره. قلت: فمن يوم الخميس؟ قال: لا، ذلك النهار فلا يضره (23)، وفي صحيح مسلم (24) عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت. وكان للنصارى يوم الأحد. فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة. فجعل الجمعة والسبت والأحد. وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق"، وفي (المسند) والسنن (25) من حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدمُ، وفيه قبُض، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي"، وروى مالك في (الموطأ) (26) عن أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدمُ، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مُصِيخَة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه"، قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة. فقرأ كعب التوراة. فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأرجح هذه الأقوال قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر. الأول: أنها من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة. وحجة هذا القول ما روى مسلم في (صحيحه) (27) من حديث أبي بردة بن أبي موسى أن عبد الله ابن عمر قال له: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله في شأن ساعة الجمعة شيئا؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة"، وروى ابن ماجه والترمذي (28) من حديث عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبدُ فيها شيئا إلا آتاه الله إياه"، قالوا: يا رسول الله، أية ساعة هي؟ قال: "حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها".

الثاني: أنها بعد العصر. وهذا أرجح القولين؟ وهو قول عبد الله بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق.

وحجة هذا القول ما رواه أحمد في (مسنده) (29) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر"، وروى أبو داود والنسائي (30) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر"، وروى سعيد بن منصور في (سننه) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. وفي (سنن ابن ماجه) (31) عن عبد الله بن سلام قال: قلت -ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس-: إنا لنجد في كتاب الله -يعني التوراة-: في يوم الجمعة ساعةٌ لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا قضى له حاجته. قال عبد الله (32): فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو بعض ساعة"، فقلت: صدقتَ، أو بعض ساعة. قلت: أي ساعة هي؟ قال: "هي آخر ساعات النهار"، قلت: إنها ليست ساعة صلاة! قال: "بلى، إن العبد المؤمن إذا صلى، ثم جلس، لا يحبسه إلا الصلاة، فهو في الصلاة"، وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحدا حتى تغرب الشمس.

وهذا هو قول أكثر السلف. وعليه أكثر الأحاديث. ويليه القول بأنها ساعة الصلاة. وبقية الأقوال لا دليل عليها.

ثم قال ابن القيم: وعندي أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضا. فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر، فهي ساعة معينة من اليوم، لا تتقدم ولا تتأخر، وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة، تقدمت أو تأخرت؛ لأن لاجتماع المسلمين، وصلاتهم، وتضرعهم، وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيرا في الإجابة؛ فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة. وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء، والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين.أ.ه.

والأحاديث والآثار في هذا كثيرة معروفة، وكلام أهل العلم عليها غير خاف، وهي تدل على فوائد عظيمة. نشير إلى أهمها بما يلي:

▪ أولا: فضل يوم الجمعة، وشرفه، وأنه خصص للتزود من العبادات؛ لا للهو واللعب.

▪ ثانيا: أن صلاة الجمعة من أوجب ما أوجبه الله على عباده، وأن مَن تركها بدون عذر فعليه الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث المتقدمة. ففي بعضها: "من ترك ثلاث جمع طبع الله على قلبه"، وفي بعضها: "فهو منافق"، وفي بعضها: "فقد برئ الله منه"، وفي بعضها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه بأن لا يجمع الله شمله ولا يبارك في أمره حتى يتوب. وفي بعضها: الأمر لمن تركها بأن يتصدق بدينار. فدل هذا على أنه ارتكب أمرا عظيما لا بد فيه من كفارة.

▪ ثالثا: النهي عن السفر في يومها بعد الزوال. وفي بعضها: أو قبله. على الخلاف الذي مر ذكره، إذا كان مسافرا لقصد صحيح، فكيف بمن يخرج ولا مقصد له إلا اللهو واللعب؟!
إذا عرف هذا، فالذي قرره العلماء رحمهم الله في حال مثل هؤلاء المسئولِ عنهم، إذا خرجوا للنزهة، هل يلزمهم السعي إلى الصلاة أم لا؟ فلا يخلو من حالتين:

- الأولى: أن يكونوا على مسافة فرسخ فأقل من البلد. ففي هذه الحالة تلزمهم الجمعة بغيرهم -أي بسبب غيرهم- فالباء هنا للسببية، فلولا فعل الغير لها لم تجب عليهم. فإذا كان بقربهم بلد يصلون الجمعة، لزمهم السعي إليها. وإلا لم يلزمهم أن يصلوا في موضعهم -لو فرضنا أنهم بلغوا العدد المعتبر- ولا أن يذهبوا إلى البلد ليقيموا فيه صلاة الجمعة وحدهم.
- الحالة الثانية: أن تكون المسافة أكثر من فرسخ. فلا تجب عليهم الجمعة، لا بأنفسهم، ولا بغيرهم -والفرسخ ثلاثة أميال- سواء قطعها في مدة قصيرة، أو طويلة.

وإليك شيئا من عباراتهم؛ لتطلع على نصوص العلماء في هذا:

قال في (مطالب أولى النهي): وتجب الجمعة أيضا على خارج عن بلد تقام به الجمعة، والحال أن بينه وبين مسجده -أي مسجد التجميع من بلد- وقت فعلها فرسخ -نصا- تقريبا، فأقل من ذلك، كمن بقُرًى صغيرة، لا يبلغ عدد كل قرية أربعين، وليس بينه وبين ما تقام به الجمعة أكثر من فرسخ، وكمن بخيام، ومسافر لا يقصر؛ بأن كان سفره دون المسافة، أو سفر معصية، فتلزمهم -أي المذكورين- من سكان القرى الصغيرة، أو خيام، ونحوها، ومسافرين لا يقصرون بغيرهم؛ لأنهم من أهل الجمعة، كأهل المصر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة على من سمع النداء" (رواه أبو داود والدارقطني) (33)، ولفظه: "إنما الجمعة على من سمع النداء"، والعبرة بسماعه من المنارة، لا بين يدي الإمام -نصا- لكن لما كان اعتبار سماع النداء غير ممكن؛ لأنه يكون فيهم الأصم، وثقيل السمع، وقد يكون بين يدي الإمام، فيختص بسماعه أهل المسجد- اعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع فيه النداء غالبا، إذا كان المؤذن صيتا، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، وهو فرسخ، فلو سمعه أهل القرية من فوق فرسخ؛ لعلو مكانها، أو لم يسمعه، لمن حال بينه وبين موضعها جبل، أو كان في انخفاض، لم تجب في الأولى، ووجبت فيما عداها؛ اعتبارا بالمظنة.

وقال في (الإقناع) و(شرحه): وإن كان خارج البلد الذي تقام فيه الجمعة، كمن هو في قرية لا يبلغ عددهم ما يشترط في الجمعة، أو كان مقيما في خيام، ونحوها، كبيوت الشعر، أو كان مسافرا دون مسافة قصر، وبينه -أي المذكور فيما تقدم- وهو من في قرية لا يبلغون عدد الجمعة، أو في خيام، ونحوها، أو مسافر دون المسافة -وبين موضعها -أي الجمعة - من المنارة- نصا- وعنه: من أطراف البلد- أكثر من فرسخ تقريبا، لم تجب عليه الجمعة؛ لأنهم ليسوا من أهلها، ولا يسمعون نداءها، وإلا بأن كان بينه وبين موضعها -في هذه المسائل- فرسخ تقريبا فأقل لزمته بغيره؛ لأنه من أهل الجمعة، يسمع النداء كأهل المصر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "الجمعة على من سمع النداء" (رواه أبو داود، وقال: إنما أسنده قبيصة. قال البيهقي: هو من الثقات).

قال في (كشف المخدرات): وتجب على مقيم خارج البلد، إذا كان بينه وبين موضعها من المنارة -نصا- وقت فعلها فرسخ فأقل، تقريبا. ولا تجب على مسافر فوق فرسخ إلا في سفر لا قصرَ معه، أو مقيم يمنعه لشغل، أو علم، ونحوه، فتلزمه بغيره.

وقال في (منار السبيل) (34): وكذا على كل مسافر لا يباح له القصر، كسفر معصية، وما دون المسافة، فتلزمه بغيره، وعلى مقيم خارج البلد، إذا كان بينهما وبين الجمعة وقت فعلها فرسخ فأقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة على من سمع النداء" (رواه أبو داود)، ولم يكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضعُ الذي يسمع منه النداء في الغالب -إذا كان المؤذن صَيِّتا، بموضع عال، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية- فرسخٌ، فاعتبرناه به. قاله في (الكافي).

وقال في (هداية الراغب): ولا تجب الجمعة على مسافر سفر قصر، وكما لا تلزمه بنفسه لا تلزمه بغيره. فإن كان عاصيا بسفره، أو كان سفره فوق فرسخ ودون المسافة، أو أقام ما يمنع القصر فلم ينو استيطانا -لزمته بغيره. ومن كان مقيما بخيام، ونحوه -كمسافر أقام ما يمنع القصر ولم يستوطن -تلزمه الجمعة بغيره- أي: سبب وجوبها على غيره- إن كان مَن بخيام، ونحوه، بينه وبين موضعها- أي: الموضع الذي تقام فيه من مصر- فرسخٌ، فأقل من فرسخ. فإن كان بينه وبين موضعها فوق فرسخ، لم تلزمه، لا بنفسه، ولا بغيره.

وقال في (الروض الندي): لا تجب على مسافر فوق فرسخ، إلا في سفر لا قصر معه؛ لشغل -ويقيم ما يمنع القصر- وعلم، ونحوه، فتلزمهم بغيره.

قال في (الفروع) (35): والمقيم في قرية لا يبلغ عدد الجمعة، أو في الخيام، ونحوها، والمسافرُ غير سفر قصر -لا تلزمهم، إلا إذا كان فرسخا- نص عليه- وفاقا لمالك، قال جماعة: تقريبا عن مكان الجمعة، وعنه: عن أطراف البلد؛ وفاقا لمالك، فتلزمهم.

وقال في (الكافي): وتجب الجمعة على أهل المصر -قريبهم وبعيدهم-؛ لأن البلد كالشيء الواحد. وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ، ولا تجب على غيرهم. انتهى.

وكلام العلماء في هذا معروف، فلا نطيل بذكره. ومما نلفت إليه النظر أن الخروج يوم الجمعة إلى خارج البلد، وإن كان المقصود منه النزهة والاستجمام، وأصله من المباحات، إذا لم يترتب عليه شيء من المعاصي والآثام، إلا أن كثرة هذا الصنيع خلاف المشروع، ولم يكن مما درج عليه أسلافنا الصالحون، بل كانوا رحمهم الله ينتهزون فرصة وجود هذا اليوم الشريف، ويستغلونه ويتفرغون فيه للتزود مما شرع فيه، وخصص له من كثرة العبادة، والتقدم لمسجد الجامع، والتنافس في الخير، والإكثار من قراءة القرآن، وخصوصا سورة الكهف؛ لما ورد في فضلها، وكثرة الاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة الدعاء -خصوصا في ساعة الإجابة- وقد ذم الله أقواماً بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَاعِندَ الله خَيْرٌ مِنَ اللهوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (36)، وهذه العادة جاءتنا مستوردة من بلاد الخارج، حيث يسمونها عطلة الأسبوع، فيخصصون يوما في الأسبوع يعطلون فيه مصالح دينهم ودنياهم، ويتفرغون فيه للهو والمرح، يمضونه خارج البلاد. فمنهم من يكون يوم عطلته يوم السبت، ومنهم من يكون الأحد. فتَقَبَّل بعض الناس هذه العادة على علاتها؛ تشبها بهم فيها، وقلدوهم تقليدا أعمى. وهذا الصنيع لو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الكتاب لكفى به ذما. فكيف يرضى العاقل بهذا، ويترك ما فيه مصلحته، مما هو من خصائص يوم الجمعة. إن هذا لشيء عجيب!، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ} (37)، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

___________________________________________

1 - (تفسير ابن أبي حاتم) سورة الفرقان (22 رقم 1122)، وابن كثير (6/113، 7/8)، (المستدرك) (2/402).
2 - انظر (زاد المعاد) (1/ 398).
3 - (زاد المعاد) (1/ 398- 399).
4 - البخاري (881)، ومسلم (850).
5 - انظر (الزاد) (1/376).
6 - أحمد (3/ 424)، وأبو داود (1052)، والترمذي (500)، والنسائي (3/ 88)، وابن ماجه (1125)، و(صحيح الترغيب) (729).
7 - ابن خزيمة (1857)، وابن حبان (258).
8 - كما في (جامع الأصول) (3952).
9 - أحمد (3/ 332)، وابن ماجه (1126)، والحاكم (1/ 292)، و(صحيح الترغيب) (730).
10 - البيهقي في (شعب الإيمان) (3005) وإسناده مرسل، ورواه الطبراني، وقال الهيثمي في رواية الطبراني: فيه من لم يعرف (2/193).
11 - الطبراني في (الكبير) (1/ 170) وفي إسناده جابر الجعفي.
12 - رواه أبو يعلى (2712)، والبيهقي في (الشعب) (3006)، وعبد الرزاق (3/ 166) موقوفا على ابن عباس. وهو في (صحيح الترغيب) (735)، وروي مرفوعا، ولا يصح.
13 - مسلم (865).
14 - أبو داود (1053)، والنسائي (3 / 89)، وابن ماجه (1128)، وهو حديث منكر.
15 - (الزاد) (1/ 375- 381).
16 - رواه أحمد (3/430)، وابن ماجه (1084)، والطبراني في (الكبير) (5/ 133) مرتان، وحسن إسناده في زوائد ابن ماجه، وكذلك هو في (صحيح الترغيب) (695) مُحَسّنا، وقد تفرد به عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو ضعيف ليس بحجة.
17 - عند ابن ماجه: «ولا بحر».
17 - انظر (الزاد) (1/ 382).
19 - أخرجه ابن النجار عن ابن عمر كما في (الكنز) (17540)، وقال العراقي في (الإحياء) (1/ 188): أخرجه الدارقطني في (الأفراد) من حديث ابن عمر، وفيه ابن لهيعة، وقال: غريب، والخطيب في (الرواة عن مالك) من حديث أبي هريرة، بسند ضعيف.
20 - في (المصنف): كره.
21 - عبد الرزاق (3/ 251).
22 - عبد الرزاق (3/ 251)، وابن أبي شيبة (2/ 106).
23 - عبد الرزاق (3/251، 252).
24 - مسلم (856).
25 - أحمد (4/8)، وأبو داود (1047)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1085)، وابن خزيمة (1733)، وعنه ابن حبان (910)، و(صحيح الترغيب) (698).
26 - (الموطأ) (108- 110)، وأبو داود (1046)، والترمذي (491) وقال: حسن صحيح، والنسائي (3/ 113) وروى أوله مسلم (854). وانظر (الزاد) (1/366).
27 - مسلم (853).
28 - الترمذي (490) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (1138)، وهو من حديث كثير ابن عبد الله بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وكثير: ضعيف جدا، وراجع كلام المنذري في (الترغيب) (1/250، 251).
29 - أحمد (2/272، 3/65، 5/450) عن أبي هريرة وأبي سعيد، و(2/230، 255، 280، 284 مرتان، 401، 403، 457، 469، 485، 486، 489، 498 مرتان، 504، 518، 5/451، 453) عن أبي هريرة. وهو في البخاري (935، 5294، 6400)، ومسلم (852) عن أبي هريرة بدون ذكر: العصر.
30 - أبو داود (1048)، والنسائي (3/ 99)، والحاكم (1/279) وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال المنذري في (الترغيب) (1/251): وهو كما قال.
31 - ابن ماجه (1139)، وقال في (الزوائد): إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال المنذري في (الترغيب) (1/251): إسناده على شرط الصحيح.
32 - انظر (الزاد) (1/ 394).
33 - أبو داود (1056) وأعله بالوقف على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والدارقطني (2/6) من نفس طريق أبي داود، والتي أشار إلى تصويب وقفها. وللحديث طرق أخرى، وفيها ضعف، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. فالرفع لا يثبت بحال، والصواب أنه من قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
34 - (1/ 141).
35 - (2/ 90).
36 - سورة الجمعة: الآية (11).
37 - سورة آل عمران: الآية (8).