هل مس الذكر ينقض الوضوء

السؤال: ماذا تَرَونَ في التَّعَارُض بين الحديثين التاليين: حديث بُسْرَةَ بنت صفوان: "من مَسَّ ذَكَرَهُ فليَتَوَضَّأ". وحديث طَلْقِ بْنِ عَلِىٍّ: "إنما هو بضعة منك".

الإجابة

الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد اخْتَلفَت أقوالُ أهلِ العِلْمِ بين التَّرجِيح والجَمْع في تلك المسألة؛ فَرَجَّحَ بَعْضُهُم نَقْضَ الوُضوءِ مُطْلَقًا، والبَعْضُ رَجَّحَ عَدَم النَّقضِ مُطْلَقًا، وذَهَبَ آخرونَ إلى الجَمْعِ؛ فرؤوا أن المَسَّ إن كان لإثارَة الشَّهوةِ، فإنَّه يَنْقُض، وإن كان لغَير ذلك، فلا يَنْقُضُ، أو أن الأمر بالوضوء في حديث بُسْرَةَ للاستحباب؛ وإليك تفصيل القول في تلك الآراء:

الأول: من رَجَّحَ نَقْضَ الوُضُوءِ مُطْلقًا، وهم الجمهور من المالكية - في المشهور - والشافعية والحنابلة - في الصحيح من المذهب - وإسحاق، وابن حزم، وأكثر أهل العلم واحتجوا بحديث بُسْرَةَ بنت صفوان: "من مَسَّ ذَكَرَهُ فليَتَوَضَّأ"، ورجحوه على حديث طَلْقِ بْنِ عَلِىٍّ مِن وُجُوه:

منها: كونه أَصَحَّ وأرجَح مِنه؛ لكثرة مَنْ صَحَّحَه من الأئمة، ولكثرة شواهده.

ومنها: كون بُسرة حدثت به في المدينة، والمهاجرون والأنصار مُتَوَافِرُون، ولم يدفعه منهم أحد.

ومنها: أنه ناسِخٌ لحديث طَلْقِ بْنِ عَلِىٍّ؛ لأن إسلامَ بُسْرَةَ مُتَأَخِّر عن إسلامِ طَلْق.

ومنها: أنَّ حديث طَلْقِ مُوافِق لما كَانَ الأَمْرُ عليه قبل ورود حديث بُسْرَةَ من البَرَاءَةِ الأَصلية، وحديث بُسْرَةَ نَاقِل عَنها.

قال البيهقي: "يَكْفِي في ترجيح حديث بُسْرَةَ على حديث طَلْق بن عليّ، أَنَّهُ لم يُخَرِّجهُ صَاحِبا الصَّحِيح، ولم يُحْتَج بِأَحَدٍ مِن رواته، وقد احتُجَّ بجميع رواة حديث بُسْرة"، ثم إن حديث طَلْق بن عليّ قال الشَّافعي: قد سألنا عن قَيْسِ بن طَلْق؛ فلم نَجِد من يعرفه، فما يكون لنا قبول خَبَرِهِ. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: قَيْسِ بن طَلْق ليس فيمن تقوم به حُجَّة وَوَهَّياهُ.

الثاني: أن مّسَّ الذَّكَر غَير ناقِضٍ مُطْلَقًا؛ وهو قول الحنفية، ورَبِيعة، والثَّوْرِيِّ، وابنِ المُنْذِر والرواية الثانية عن أحمد؛ واحتَجُّوا بِحَدِيث طَلْق بن عليِّ رضي الله عنه قال: "قال رَجُلٌ: مَسَستُ ذَكَرِي. أو قال: الرَّجُل يَمَسُّ ذَكَرَهُ في الصَّلاةِ؛ أَعَلَيْه الوضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعةٌ منك"؛ أخرجه الخمسةُ.

الثالث: من ذَهَبَ إلى الجَمْعِ؛ قَالوا: إن مَسَّ الفَرْج يُستَحَب له الوضوء، وهو رواية عند المالكية، ورواية عن أحمد، كما في (الإنصاف) للمرداوي، اختارها شيخ الإسلام في الفتاوى، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يَنْقُضُ لغير شهوة.

وقالوا: حيث إن الحديثين صحيحان؛ فلا وجه لترجيح أحدهما على الآخر، مادام الجَمْعُ مُمْكِنًا؛ فالأمر بالوضوء في حديث بُسْرَةَ مَصْروف من الوجوب إلى الاستحباب، بدليل حديث طَلْق.

وأجابوا عمن قال بالترجيح: بِأنَّنَا لا نلجأ إلى التَّرجِيح إلا بعد تَعَذُّرِ الجَمعِ، أَمَّا مَعَ إِمكان الجَمْعِ؛ فلا نَرجِع إلى التَّرجِيحِ؛ لأن الجَمع مُقَدَّم على التَّرجِيح؛ والقاعدة الأصولية "أن الإعمال أولى من الإهمال"؛ لأن في الجَمْعِ إعمالاً للدليلَينِ.

وأما كون بُسْرَةَ حَدَّثَت به في المدينة والصَّحَابَة من المُهاجرين والأنصار مُتوافِرُون ولم يدفعه منهم أَحَد، فالجَوَابُ: أَنَّهُم لم يدفعوه؛ لأنها رِوَاية وليست فتوى، فهي لم تَقُل: إن حديثَها يُفِيد الوجوب، وأن المسَّ ناقضٌ للوضوء، حتى نقول إنهم لم يُعَارِضُوه، فرُبَّمَا فهموا من الحديث أن هذا الأمر للاستحباب، بقَرِينة حديث طَلْقِ بن عليّ.

وأيضًا تَأَخُّر إسلامِ الرَّاوي ليس دليلاً على النَّسْخِ عند المُحَقِّقِين من أَئِمَّةِ الأُصُول؛ لأنه قد يكون ما يُحَدِّثُ به أَخَذَهُ عن غَيره من الصَّحابةِ، وهو ما يُعْرَف بمُرْسَلِ الصَّحابِي.

والراجح عندنا - والعلم عند الله - قَوْلُ من قال بأنه ينقض، لأن قيس بن طلق ليس ممن يحتج به، فروايته لا تقام رواية حديث بسرة من حيث الثبوت،، والله أعلم.



موقع الألوكة