مسألة في الطلاق

طلقت ثلاث مرات: المرة الأولى: وكانت الزوجة حامل وراجعتها وهي عندي، وتمت المراجعة في نفس اليوم الذي كان فيه الطلاق، والمرة الثانية: كانت حائضاً وراجعتها أيضاً في نفس اليوم وهي عندي، وكان الطلاق مرتين، له منها الآن خمسة عيال وهي عنده في البيت، ويشكو من مرض

الإجابة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع الطلاق لمصالح كثيرة قد يحتاجها الزوج وقد تحتاجها الزوجة، فمن نعمته سبحانه أن شرع الطلاق، حيث قال جل وعلا: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.. الآية (229) سورة البقرة، فإذا احتاج المسلم إلى الطلاق لكون المرأة لم تناسبه أو لأسباب أخرى تقتضي الطلاق شُرع له أن يطلق طلقة واحدة فقط، هذا هو السنة طلقة واحدة فقط؛ لأنه قد يبدو له أن يراجع فإذا هو في سعة، فيطلق واحدة فقط في طهر لم يجامع فيه أو في حال الحمل؛ لقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ.. (1) سورة الطلاق، قال علماء التفسير: معناه طاهرات من غير جماع، يعني في حال الطهر من حيض أو نفاس، وقبل أن يمسها، أو في حال الحمل، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له لما طلق امرأته وهي حائض (راجعها، ثم أمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شئت فطلقها قبل أن تمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، وفي لفظ قال: (ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً)، فهذا هو المشروع: أن يطلق الزوج امرأته إذا احتاج إلى ذلك طلقة واحدة في إحدى حالين: إما في حال كونها حاملاً، أو في حال كونها طاهرة في طهر لم يجامعها فيه وهي حائض، هذا هو الطلاق الشرعي، ويكره أن يطلق اثنتين من دون حاجة، بل يطلق واحدة فقط، ولا يجوز له أن يطلقها في حال الحيض ولا في حال النفاس ولا في حال طهر جامعها فيه؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم - أنكر على ابن عمر ذلك وجعل هذا من تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) المعنى في طهر لم يجامعها فيه، فعلم بهذا أن الطلاق في الحيض أو النفاس أو في طهر جامع فيه يخالف نص الآية الكريمة ويخالف التعليم النبوي الذي وجهه -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر وهو للأمة كلها؛ لأن تعليمه -صلى الله عليه وسلم- للواحد تعليم للأمة كلها. ثم اختلف العلماء في وقوعه: هل يقع إذا كان في حال لا يشرع فيها كالحيض والنفاس والطهر الذي جامع فيه؟ فذهب جمهور أهل العلم وأكثرهم إلى أنه يقع مع الإثم، يأثم الزوج ويقع الطلاق، وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه لا يقع؛ لأنه طلاق غير مشروع فلا يقع؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وهذا عملٌ ليس عليه أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون مردوداً؛ ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رد المرأة على ابن عمر لما طلقها وهي حائض، ردها عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرها شيئاً كما ثبت في الصحيح وقال: (إذا طهرت فليطلق أو يمسك)، وسئل ابن عمر عن ذلك -رضي الله عنه- فقال: (لا يعتد بها)، مع أنه -رضي الله عنه- حسب ما وقع له تطليقة، حسبها اجتهاداً منه، حسب ما وقع من تطليقة ولم يحسبها عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا قول أرجح من حيث الدليل: أنه لا يقع الطلاق في حال الحيض والنفاس ولا في طهر جامعها فيه وإن كان خلاف قول الجمهور، ولكنه أظهر في الدليل. والأصل بقاء النكاح وعدم وقوع الطلاق الذي لم يشرع، والله عز وجل شرع لعباده ما فيه مصلحتهم ونهاهم عما يضرهم، ولا ريب أن وقوع الطلاق في حال الحيض والنفاس وفي الطهر الذي جامع فيه يضر الزوج ويضر المرأة في الغالب، فكان من محاسن الإسلام ومن رحمة الله عز وجل القول بأنه لا يقع، قال من لم يوقعه: ومما يؤيد ذلك أن الإنسان في حال الحيض في حال كون امرأته حائضاً أو نفساء يسهل عليه الطلاق لأنها لا تصلح للجماع وهو ممنوع من جماعها فيسهل عليه الطلاق، وهكذا إذا كان قد قضى وطره وجامعها يسهل عليه الطلاق، فمن رحمة الله أن منعه من ذلك وحرم عليه ذلك، فمتى أقدم على التحريم لم يقع منه ذلك؛ لكونه خلاف أمر الله. وهذا السائل طلق الأولى وهي حامل فالطلاق واقع لأن طلاق الحامل أمر مشروع، أما الطلاق الثاني إذا كان في الحيض باتفاقهما واعترافهما جميعاً فإنه لا يقع على الصحيح إلا أن يحكم حاكم بذلك فإن حكم حاكم بوقوعه وقع؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، فإذا حكم حاكم ممن يرى أنه يقع الطلاق كما هو قول الجمهور فحكم عليه بوقوع الطلاق فإنه يرتفع الخلاف ويقع الطلاق وينفذ، وليس للمفتي ليس لأي مفتٍ أن ينقض ذلك لأن المسألة خلافية يسوغ فيها الاجتهاد. أما كونه مختل الشعور فهذا يحتاج إلى أن يستفتي قاضي بلده إذا وقع منه شيء يستفتي قاضي البلد حتى ينظر في الأمر وحتى يطالب البينة الدالة على ما قاله، فليس كل من ادعى شيئاً يسلم له، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على المدعي)، فالذي يدَّعي أنه طلق في حال زوال عقله يطالب بالبينة على ما قال فإذا ثبت ذلك لم يقع الطلاق، وإذا أقرت الزوجة بأنه وقع منه في حال غير شعورية كالسكران الذي طلق في حال غيبوبة عقله لتعاطيه ما حرم الله فالصحيح أنه لا يقع كالمجنون ولو كان آثماً، فإن الآثم عليه التوبة إلى الله وعلى ولي الأمر أن يقيم عليه الحد إذا رفع إلى ولي الأمر، وليس من عقوبة السكران إيقاع الطلاق، فالصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم وبه أفتى الخليفة الراشد عثمان -رضي الله عنه- أن طلاق السكران الذي قد فقد عقله لا يقع حتى ولو كان آثماً، أما غير الآثم فلا يقع عند الجميع، كالمجنون، فلو أن إنساناً سقي ما يسكره ويغير عقله بغير علمه أو أجبر عليه وأكره عليه لم يقع طلاقه عند أهل العلم، وإنما الخلاف فيمن شرب السكر عمداً فهذا هو محل الخلاف، فهو آثم ويجب أن يقام عليه الحد إذا رفع إلى السلطان، ولكن لا يقع الطلاق إذا كان في حال الطلاق فاقد العقل كالمعتوه والمجنون، والله المستعان.