فصل في تفسير قوله تعالى: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق}

السؤال: فصل في تفسير قوله تعالى: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق}

الإجابة

الإجابة: فصل:

قال الله تعالى‏:‏‏{‏‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ‏} ‏[‏المؤمنون‏:‏17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏6- 7‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ {‏‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، قال طائفة من السلف‏:‏ الغيب هو الله، أو من الإيمان بالغيب الإيمان بالله‏.‏

ففي موضع نفى عن نفسه أن يكون غائباً، وفى موضع جعله نفسه غيباً‏.‏

ولهذا اختلف الناس في هذه المسألة، فطائفة من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم كالقاضي وابن عقيل ‏[‏هو أبو الوفاء على بن عقيل البغدادى، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد فى وقته، اشتغل بمذهب المعتزلة فى حداثته، وقال عنه ابن حجر‏:‏ نعم كان معتزليا، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك وصحت توبته، له تصانيف كثيرة، منها كتاب الفنون الذي يزيد على أربعمائة مجلد، توفى سنة 315ه‏]‏ وابن الزاغونى ‏[‏هو أبو الحسن على بن عبيد الله بن نصر بن الزاغونى، مؤرخ فقيه، من أعيان الحنابلة، له تصانيف كثيرة فى الفقه والأصول والحديث، منها‏:‏الإقناع والواضح وغيرهما ‏.‏

ولد سنة 455 ه، وتوفى سنة 527 ه‏]‏ يقولون بقياس الغائب على الشاهد، ويريدون بالغائب الله، ويقولون‏:‏ قياس الغائب على الشاهد ثابت بالحد والعلة والدليل والشرط‏.‏

كما يقولون فى مسائل الصفات في إثبات العلم والخبرة والإرادة وغير ذلك‏.

‏‏ و أنكر ذلك عليهم طائفة منهم الشيخ أبو محمد فى رسالته إلى أهل رأس العين، وقال‏:‏ لا يسمى الله غائباً،واستدل بما ذكر ‏.‏

وفصل الخطاب بين الطائفتين‏:‏أن اسم ‏(‏الغيب والغائب‏)‏ من الأمور الإضافية يراد به ما غاب عنا فلم ندركه،ويراد به ما غاب عنا فلم يدركنا؛وذلك لأن الواحد منا إذا غاب عن الآخر مغيبا مطلقاً لم يدرك هذا هذا ولا هذا هذا، والله سبحانه شهيد على العباد، رقيب عليهم، مهيمن عليهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، فليس هو غائباً، وإنما لما لم يره العباد كان غيبا؛ولهذا يدخل فى الغيب الذي يؤمن به وليس هو بغائب؛ فإن ‏(‏الغائب‏)‏ اسم فاعل من قولك‏:‏غاب يغيب فهو غائب والله شاهد غير غائب، وأما ‏(‏الغيب‏)‏ فهو مصدر غاب يغيب غيباً، وكثيراً ما يوضع المصدر موضع الفاعل كالعدل والصوم والزور، وموضع المفعول كالخلق والرزق ودرهم ضرب الأمير‏.‏

ولهذا يقرن الغيب بالشهادة، وهى أيضاً مصدر، فالشهادة هي المشهود أو الشاهد، والغيب هو إما المغيب عنه فهو الذي لا يشهد نقيض الشهادة، وإما بمعنى الغائب الذي غاب عنا فلم نشهده فتسميته باسم المصدر فيه تنبيه على النسبة إلى الغير، أي‏:‏ليس هو بنفسه غائبا، وإنما غاب عن الغير أو غاب الغير عنه‏.‏

وقد يقال‏:‏اسم ‏(‏الشهادة،والغيب‏)‏ يجمع النسبتين، فالشهادة ما شهدنا وشهدناه، والغيب ما غاب عنا وغبنا عنه فلم نشهده، وعلى كل تقدير فالمعنى فى كونه غيبا هو انتفاء شهود ناله، وهذه تسمية قرآنية صحيحة، فلو قالوا‏:‏ قياس الغيب على الشهادة لكانت العبارة موافقة، وأما قياس الغائب ففيه مخالفة فى ظاهر اللفظ ولكن موافقة فى المعنى؛ فلهذا حصل فى إطلاقه التنازع.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الرابع عشر.