شبهات

السؤال: يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، ويقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56]، كما أن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ فهل الإنسان مسيَّرٌ أم مخيَّرٌ؟ وما ذنب مَنْ يولد يهوديّاً أو نصرانيّاً، ليكون مصيره إلى النار؟

الإجابة

الإجابة:

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، ثم أما بعد:

فإن كل ما يجري في هذا الكون مهما صغر أو عظم هو بقضاء الله تعالى وقدره، وسَبَق علمه به في سابق أزَلِه؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، وفي "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطن أمه أربعين يوماً نُطْفَةً، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَةً مثل ذلك، ثم يُرْسَل إليه المَلَكُ؛ فينفخُ فيه الروحَ، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيدٌ ..." إلى آخر الحديث.

وفي "صحيح مسلم"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كتب اللهُ مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة"، وفي "سنن أبي داود" و"الترمذي"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول ما خَلَقَ القلم، فقال له: اكتبْ؛ قال: وما أكتبُ يا ربِّ؟ قال: اكتبْ مقاديرَ كلَّ شيءٍ حتى تقوم الساعة".

وفي حديث مسلم: "كلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، حتى العَجْز والكَيْس".

ويدخل في عموم ذلك أفعالُ العباد، وهي تشمل حركاتهم، وأفكارهم، واختيارهم؛ فكل ما يعمله الإنسان، أو يحصِّل له من خير أو شرٍّ، لا يخرج عن قدرة الله تعالى ومشيئته؛ قال عزَّ وجلَّ: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله خالق كل صانعٍ وصنعته" (رواه الحاكم وصحَّحه الألباني).

ولذلك؛ فالإنسان ميسَّرٌ لما خلق له؛ ففي "صحيح مسلم"، أن سُراقة بن مالك رضي الله عنه قال: يا رسول الله؛ بيِّنْ لنا دينَنا، كأنَّا خُلقنا الآن؛ فيما العملُ اليوم؟ أفيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبلُ؟ قال: "لا؛ بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير". قال: ففيم العملُ؟ قال: "اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّرٌ"، وفي رواية: "كلُّ عاملٍ ميسَّرٌ لعمله".

قال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم": "وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل، والاتِّكال على ما سبق به القدر؛ بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له، لا يقدر على غيره".

ومع ذلك؛ فقد جعل الله تبارك وتعالى للعبد اختياراً ومشيئةً، وأعطاه عقلاً وسمعاً، وإدراكاً وإرادةً، فهو يعرف الخير من الشرِّ، والضارَّ من النافع، وما يلائمه وما لا يلائمه، وأُعطي القوة لتنفيذ ما يريد؛ فيختار لنفسه طريق الخير أو الشر، وبذلك تعلَّقت التكاليف الشرعية المرتبطة به من الأمر والنهي، وعلى أساسها يُحاسب على أفعاله التي اختارها لنفسه؛ فينال الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية؛ قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]، وقال سبحانه : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10].

فأدلَّة الوحي تفيدُ: أن للإنسان كسباً وعملاً، وقدرةً وإرادةً، وبسبب تصرُّفه بتلك القدرة والإرادة، يكون من أهل الجنة أو النار".

وبناءً على هذا؛ فإن الإنسان مسيَّرٌ؛ لأنه لا يخرج بشيءٍ من أعماله كلها عن قدرة الله تعالى ومشيئته، ومخيَّرٌ في أفعاله من خير أو شرٍّ، ولم يُكرهْهُ أحدٌ على انتهاج هذا المسلك أو ذاك، فالتَّسيير المحضُ: هو أن يهمَّ المرءُ بفعلٍ؛ فلا يجد الوسيلة لفعله، والتَّخيير المحضُ: هو أن يقوم بأفعاله من غير أن تكون محدَّدة له سلفاً.

أما قولكِ: وما ذنب مَنْ يولد يهوديّاً أو نصرانيّاً، ليكون مصيره إلى النار؟

فنقولُ: إن الله تعالى خلق كل إنسان مسلماً، مهيَّئاً لقبول الحق، أما التهوُّد أو التنصُّر؛ فأمرٌ طارئٌ على أصل الفطرة، من قِبَلِ الإنسان نفسه؛ تقليداً لآبائه، واتِّباعاً لهواه!!

ففي "صحيح مسلم"، عن عياض بن حمار المُجَاشِعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: وإنِّي خلقت عبادي حُنَفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجْتَالَتْهُم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً".

وفي "الصحيحين"، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمةُ بهيمةً جَمْعَاءَ، هل تحسُّون فيها من جَدْعَاءَ؟!". ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه؛ بل إنما حصل بسببٍ خارجيٍّ، فإن سَلِمَ من ذلك السبب؛ استمرَّ على الحق".

ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه"، ولم يقلْ: (أو يسلمانه)؛ لأنه يولد مسلماً، ويؤيِّد ذلك ما في رواية مسلم، قال: وفي رواية أبي كريب، عن أبي معاوية: "ليس من مولود يولد إلاَّ على الفطرة، حتى يعبِّر عنه لسانه"، وفي روايةٍ: "ما من مولود يولد إلا وهو على الملَّة"، وفي روايةٍ: "كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، حتى يعبِّر عنه لسانه، فإذا عبَّر عنه لسانه: إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً" (أخرجه أحمد، من حديث جابر بن عبد الله).

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "والمرادُ تمكُّن الناس من الهدى في أصل الجِبِلَّة، والتهيُّؤ لقبول الدين، فلو تُركَ المرءُ عليها؛ لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يُعْدَل عنه لآفة من الآفات البشرية، كالتقليد، وإلى هذا مال القرطبي في "المُفْهِم"؛ فقال: "المعنى: أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهَّلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيَّات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية؛ أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق".

وليُعلم: أن الله تعالى حكيمٌ، لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا لغير حكمة.

وهو سبحانه رحيمٌ، لا يظلم مثقال ذرَّة؛ فقد خلق الإنسان، وركَّب فيه الفطرة التي هي التهيُّؤ لقبول الحق، وأنعم عليه بنعمة العقل الذي يميز به بين الأشياء، ثم أرسل إليه رسلاً مؤيَّدين بالمعجزات؛ لإقامة الحُجَّة عليهم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين" (متفقٌ عليه).

ولهذا؛ لا يعذب الله أحداً -مطلقاً- حتى تقوم عليه الحجة الرِّساليَّة؛ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]، وقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134].

وأخبر سبحانه أن أهل النار يُقرُّون بأنهم أُنذروا؛ فقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِير} [الملك: 8-9]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

فبعد كل هذا الإنعام؛ مَنْ اختار الكفر على الإيمان، اتِّباعاً للآباء؛ فمصيره جهنم؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، وقال تعالى: {قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء: 53-54]، وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ . قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ . قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ . أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ . قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69- 74].

والقرآن الكريم زاخرٌ بهذه المعاني الدالَّة على بطلان حُجَج مَنْ كفر تقليداً للآباء والأجداد، لاسيما إنْ كان من اليهود والنصارى؛ فقد بشَّر المسيح ابن مريم بمحمد بن عبدالله عليهما الصلاة والسلام ولا تزال هذه البشارة موجودة في الأناجيل، على الرغم من استمرار التحريف والتبديل؛ فببعثة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم قطع الله الأعذار للبشر؛ قال ابن القيم" في "مدارج السالكين": "فإن حجَّة الله قامت على العبد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكُّنه من العلم به، سواء علم أو جهل، فكل من تمكَّن من معرفة ما أمر الله به، ونهى عنه، فقصر عنه ولم يعرفه؛ فقد قامت عليه الحجَّة، والله سبحانه لا يعذِّب أحداً إلا بعد قيام الحجَّة عليه".

والحاصلُ: أن الإنسان إنما يعذَّبُ -إذا ولد لأبوَيْن كافرَيْن- لاستمراره على الكفر بعد بلوغه، وتمكُّنه من الاستدلال والنَّظَر، الذي يوافق الفطرة التي فطره الله عليها، وهي التهيُّؤ لقبول الحق، ثم إن الله تعالى برحمته لا يعذبه إلا بعد بلوغ الحجَّة إليه بطريقة يفهمها -قطعاً للعذر- ثم رفضه إيَّاها؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]،، والله أعلم.