الإجابة:
إن التصوير الذي جاء النهي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدد
كثير من الأحاديث، هو اختلاق الصورة، أي أن يخلق الإنسان صورة يضاهي
بها خلق الله، فهذا هو المحرم وعلة تحريمه هي مضاهاة خلق الله، وقد
جاء التصريح بهذه العلة في الحديث، والعلة إذا كانت نصية فإنها تقتضي
أمرين تقتضي العلية والتعليل معاً، تقتضي أن الحكم تعللي وتقتضي أن
علته هي ما نُصَّ عليه في الشرع، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على
هذه العلة فبين أنهم يضاهون خلق الله فقال: "فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة"، وكذلك قال:
"من صور ذا روح عذب حتى ينفخ فيه الروح وما
هو بنافخ"، فهذا يشمل النحت من الحجارة ومن الخشب ومن الطين
ومن قشر القثاء ونحو ذلك.
وأما التصوير بالآلات بحبس الظل فإنما هو مثل النظر في المرآة، والنظر
في المرآة جائز بالإجماع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر في
المرآة ولو كان ذلك تصويراً لما فعله، فالنظر في المرآة هو الذي يحكي
الصورة تماماً، ولكن الفرق بينها وبين الصورة التي في المرآة أنها
مثبتة، وتثبيتها لا يقتضي حكماً، وهو أمر جديد لا يمكن أن تتناوله
النصوص، ولا يسمى هذا صورة في لغة العرب، لأن العرب إنما يطلقون
الصورة على المجسمات، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص فيما
كان منها رقماً في ثوب، قال: "إلا رقْماً
في ثوب" فالرقم هو ما كان من النسيج أو من الصبغ، فإذا كان في
ثوب فهو معفو عنه، وقد رأى بعض أهل العلم أن من شرط ذلك أن يكون
صغيراً لأن الرقم يرمز إلى الصغر، أما إذا كان صورة كبيرة فلا.
والصورة إذا كانت بالنسيج وكانت كبيرة فقد دل على منعها حديث عائشة في
قصة القرام، أنها كان لها قرام فسترت به سهوة البيت فدخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأعرض ورجع، فقلت: يا رسول الله إني تائبة،
فانتزعت القرام فقسمته نصفين، فجعلت منه وسادتين، وفي رواية أن القرام
كان فيه صورة رجلين، وفي رواية أنه كانت فيه صورة خيل مجنحة، وقد حمل
ذلك بعض أهل العلم على أنه قصتان، أن القرام كان قرامين قرام فيه خيل
مجنحة وقرام فيه رجلان، ولكن الذي يبدو أن قصة القرام واحدة وأنه كانت
فيه خيل وفوقها رجلان فهما فارسان، فذكر في أحد الحديثين الخيل وذكر
في أحدهما الرجلان فالجميع صورة وهي منسوجة على هذا الشكل، فإذا كانت
كبيرة معلقة فهذا المنهي عنه، وإلا فالقرام كان في بيتها ولم ينه عنه
النبي صلى الله عليه وسلم قبل رفعه، ثم اتخذت منه وسادتين، وهذا لا
يقتضي تمزيقه بالكلية وإنما يقتضي قطعاً له.
وهذا يقتضي أن الصورة إذا كانت ممتهنة ولم تكن تامة فإنه يجوز
استعمالها، فلذلك لم ينهَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسادتين،
وبقيتا في بيته.
وعموماً أنبه إلى أن كثيراً من المصطلحات التي تتجدد أو من الأمور
التي تتجدد فيطلق عليها بعض الألفاظ المعروفة في اللغة، فإن تسميتها
بتلك الأسماء المحدثة لا يقتضي منعاً ولا تغييراً لحكمها، وهذه قاعدة
مهمة، وقد ذكرها ابن قدامة رحمه الله في المغني، ونظمها الشيخ محمد
علي رحمة الله عليه بقوله:
تسمية العين بغير اسمها
لا تنقل الأعيان عن حكمها
لا تقتضي منعاً ولا تقتضي
إثبات حق ليس في قسمها
بل حكمها من قبل في أمسها
كحكمها من بعد في يومها
فائدة مهمة ينبغي
إيقاف من يفتي على فهمها
فالقهوة اسم للخمر في الأصل، إذا فتحت القاموس يقول: القهوة الخمر ومن ذلك قول الشاعر: "كقهوة شارب متنطف"، وهي اليوم تطلق على شراب قشر البن، فلا تقتضي تسميته قهوة تحريمه، وكذلك تسمية الكبش خنزيراً أو الخنزير كبشاً لا يغير الحكم، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يستحلون الخمر في آخر الزمان فقال إنهم: "يسمونها بغير اسمها"، فلو كانت تسمية الشيء بغير اسمه مبيحة لأباحت لهم الخمر حين سموها بغير اسمها.