حكم زيارة القبور للنساء

السؤال: ما حكم زيارة القبور للنساء مع العلم أنها تزور والديها وتسافر من مكان بعيد؟

الإجابة

الإجابة: إن زيارة القبور نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام حين تكاثر الناس بموتاهم، وكانوا يعدونهم فيفخرون بهم، ثم بعد ذلك بعد أن أنزلت سورة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة"، وفي رواية: "فزوروها ولا تقولوا هجراً"، والهجر الكلام القبيح، وهذا الحديث عام في الرجال والنساء، والدليل على ذلك ما ثبت من حديث عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول إذا زارت الأموات فعلمها أن تقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، آمن الله روعتكم، وآنس وحشتكم، وجعل الجنة موعداً بيننا وبينكم، يرحم الله المتقدمين منا والمستأخرين"، وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو عندها فخرجت تبحث عنه فوجدته واقفاً تلقاء رؤوس المقبرة، وهو يدعو لهم، فوقفت خلفه ودعت بما دعا به، ثم رجعت فسبقته فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها خرجت تبحث عنه فسألها فقصت عليه الخبر، وعلى هذا فإن المرأة إذا كان بقربها أموات فإنها لا حرج في زيارتها لكن لا تقف على كل قبر، بل تقف أمام المقبرة وتتذكر الآخرة وتدعو لهم بما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة أن تدعو به.

وحينئذ تستفيد المرأة ثلاثة أمور أو تستفيد من ثلاثة أوجه ينبغي ترتيبها:

الوجه الأول: أن تتذكر أن القبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وأن صاحبه قد انقطع خبره عن أهل الدنيا، وأن أهل القبور مسجونون في قبورهم، أهل قرب لا يتزاورون وهم في وحشة لا ينفكون، أسارى ذنوب لا ينفكون وأهل قرب لا يتزاورون، وأنهم هنا في هذا الحال إما أن يكونوا في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، والقبر أول منازل الآخرة وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، هذه الموعظة الأولى.

الموعظة الثانية: أن تتذكر حال هؤلاء الذين دفنوا في هذه القبور فانقطعت أخبارهم عن الناس، وقد كانوا يظن أنهم من المؤثرين ومن الذين يوثق بهم وتوكل إليهم الأعمال والأمور ومع ذلك أصبح أهلوهم يتصرفون في أمتعتهم بعدهم، فالشخص الذي كان شحيحاً بخيلاً أصبح ماله يتقاسمه الناس، والشخص الذي كان يحرص على أسراره وأموره المختصة به أصبحت صناديقه مقسمة بين الناس ومفاتحه في أيديهم، وهكذا فملابسه الخاصة يلبسها من سواه، قد انتقل عن هذه الدنيا فأصبح بعد أن كان يخاف من كل شيء في أوحش المنازل وأشدها خوفا، كما قال الشاعر يرثي زوجته:
أنى حللت وكنت جد فروقة *** بلدا يحل به الشجاع فيفزع ولقد تركت صغيرة مرحومة *** لم تدر ما جزع عليك فتجزع فإذا سمعت أنينها في ليلها *** طفقت عليك شؤون عيني تدمع
فهنا يقول: "أنى حللت وكنت جد فروقة *** بلداً يحل به الشجاع فيفزع" كانت جد فروقة تحذر أن تبقى وحدها في الغرفة، تحذر من الظلام، تحذر من كل الأمور ومع ذلك أصبحت تعيش في هذه الحفرة الموحشة، فهذا هو القسم الثاني من الموعظة التي تحصل لزائر القبور، وهذا القسم هو الذي حصل في أيام معاوية رضي الله عنه، فإن رجلاً جاء إلى الشام فرأى جنازة تحمل فخرج مع أهلها فلما دفنوها وقف يبكي وأنشد قول الشاعر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور *** فاذكر فهل ينفعنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبط *** إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير يبكي الغريب عليه ليس يعرفه *** وذو قرابته في الحي مسرور
فقال له رجل ممن كان يحمل الجنازة: أتعرف قائل هذه الأبيات؟ فقال: لا والله، فقال: قائلها صاحب هذا القبر، وأنت الغريب الذي يبكي عليه، وهو الذي كان مغبوطاً في الأحياء فإذا هو الرمس تعفوه الأعاصير، فكان هذا من المواعظ العجيبة.

الموعظة الثالثة: أن يتذكر الشخص حال أهل هذا الميت بعد انتقاله عنهم، فإنهم كان ينظر إليهم على أنهم يعيشون في كنفه وأنه هو الذي يتولى أمورهم ويقوم بمصالحهم، وقد انتقل عنهم فلم يتغير شيء في حياتهم، كانوا يظنون أنه المدبر والمنفق عليهم وأنه لا يأتيهم رزق إلا من قِبله فانتقل فلم يتغير شيء من أمورهم البتة، كما قال الشاعر:
تقلبت الدنيا كأن ليس حادث *** وما اختل من صرف الزمان نظام
لم يختلَّ أي شيء مما كان، فهذا يدل على أن الله وحده هو المدبر الحي القيوم الخالق الرازق.

بعد هذا تأتي موعظة في الختام وهي أن يتذكر الزائر للقبور أن أحسن أحواله أن يدفن كما دفنوا، أن يموت بين المسلمين فيصلى عليه فيعود كما عادوا وينقطع خبره، لا يصل منه خبر ولا اتصال هاتفي ولا رسالة ولا أي خبر إلى أهل الدنيا، فهذه الموعظة النهائية الأخيرة.

وهذا لا يقتضي التجول بين الأجداث والمرور عليها والوقوف عليها والجلوس عليها فهذه أمور محذورة شرعاً، زيارة القبور الشرعية أن يقف الشخص أمام القبور حتى يراهم ويتعظ بحالهم، ولا ينبغي أن يتدخل بينهم وأن يمر على القبور ويجلس على بعضها فقد جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يجلس أحدكم على جمر فيحرق ثوبه فيصل إلى جسده خير له من أن يجلس على قبر"، وكذلك المرور على القبور والخروج من فوقها كل هذا مما لا ينبغي، فعلى الشخص أن يقف لقصد الموعظة وقصد الدعاء، فأصحاب القبور إذا كانوا مؤمنين ينتفعون بدعاء من دعا لهم، والزائر هو المنتفع الفائدة الكبرى بهذه المواعظ التي ذكرناها وليس بينه وبين الأموات أية صلة غير هذا، لا يمكن أن يستفيد منهم أي منفعة ولا أن يوصل إليهم أي خبر، ولا أن يعرف من أمورهم أي شيء، إنما يستفيد فقط من هذه المواعظ.

وبالنسبة للسفر إلى الأموات لقصد الزيارة حتى ولو كان من بعيد، السفر إلى الأموات لقصد الزيارة محل خلاف بين أهل العلم، والذي يبدو لي أنه إذا كان إلى الوالدين مثلاً أو كان الشخص يحتاج إليه في قسوة يجدها في قلبه، يحتاج إلى أن يتذكر أنه سيدفن في هذه التربة على الغالب وإلا فهو لا يدري أين يدفن: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، فإذا كان كذلك فلا أرى بأساً بخروجه مسافراً لهذا الغرض، لكن ينبغي أن ينوي بذلك سياحة في سبيل الله وتفكراً في عجائب خلق الله تعالى وموعظة، وأن لا يطلب شيئاً من هذه الزيارة من الأمور التي يسافر لها الناس، فكثير من الناس يسافرون إلى أصحاب القبور المساكين الذين لا يدرى هل هم في جنة أو في نار ويطلبون منهم ما لا يقدرون عليه في حياتهم فكيف بموتهم؟!! والله تعالى يقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}، وقد جاء في كتاب الله تعالى قول الله مخاطباً محمداً صلى الله عليه وسلم -الذي هو خيرة الله من خلقه-: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}، وجاء فيه قول الله تعالى: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}، وجاء فيه قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}، فكل هذا يقتضي عدم الاتصال بين الأحياء والأموات نهائيا، وكذلك قول الله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، من ورائهم برزخ: أي من دونهم حاجز يحول بينهم وبين الحياة الدنيا وما فيها إلى يوم يبعثون، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}.

وأما الاستدلال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب أهل القليب يوم بدر فهذا ليس حجة في الموضوع، لأنه إنما علم عن طريق الوحي أنهم يسمعون وأن هذا من تعذيبهم وهو تعذيب لهم لا مسرة تدخل عليهم، فهو مما يزيد عذابهم، ولذلك قال: "ما أنتم بأسمع منهم لما أقول"، فهذا من جنس عذابهم ولا يستدل به في النعيم، وعلى كلٍ فحتى لو قدر أن الأموات يسمعون فإنهم لا ينتفعون بسماع شيء مما يصل إليهم أبداً، وهذا محل إجماع أنهم لا ينتفعون بالسماع، لكن هل يسمعون أم لا هذا محل الخلاف، لكن هل ينتفعون بالسماع هذا لم يقل أحد بانتفاعهم به، لا ينتفعون بشيء مما يسمعون.



نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.