وراء تباين أنظار العلماء حكمٌ لا حصر لها

السؤال: عندما نسأل عن حكم من الأحكام يكون الرد: قال الشافعي وقال أحمد بن حنبل وقال مالك وقال أبو حنيفة، وفي النهاية نخرج بأربعة أحكام لا ندري أيها نتبع! فماذا نفعل؟

الإجابة

الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمما لا شك فيه عند المسلمين أن الدين دين الله والشرع شرعه، ولا راد لحكمه ولا معقب لأمره، حكمه عدل وقوله فصل، ومن حاد عن دين الله وحكم بغير شرعه فقد دخل في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وشرع الله صالح لكل زمان ومكان، وما ذلك إلا لأنه اشتمل على مقومات الاستمرار وعوامل الديمومة؛ ومنها صفة الثبات والمرونة، فهو ثابت في أصوله، مرن في فروعه، قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام:38].

والناظر من المجتهدين يجد حقيقة جلية وهي أن أحكام الشرع تنتظمها دائرتان:
- دائرة القطعيات وهي محل اتفاق وإجماع، ويندرج تحتها ما لاحصر له من المسائل الحادثة.
- ودائرة الظنيات (الفروع): وهذه دائرة المرونة، وفيها يختلف أهل العلم وتتباين أنظارهم بحسب مداركهم من الشرع وسعة علومهم وما رزقهم الله تعالى من الأفهام، والحكمة من هذا الاختلاف تظهر جلية واضحة لكل ذي بصيرة، وهي أن الله أراد بهذا الاختلاف التوسيع على عباده، فإذا ضاق الأمر بهم في قول عالم في زمن من الأزمان أخذوا بقول آخر، ولو أراد الله أن تكون نصوص الكتاب والسنة لا تحتمل إلا وجهاً واحداً لا اختلاف فيه ما أعجزه ذلك، ولكنه أراد من ذلك الخلاف حِكَمَاً يعلمها سبحانه، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله أن عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد اجتمعا فجعلا يتذاكران الحديث، فجعل عمر يجيء بالشيء مخالفاً فيه القاسم، وجعل ذلك يشق على القاسم حتى تبين فيه! فقال له عمر: لا تفعل، فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم.أ.ه.

ونظراً لاختلاف أحوال السائلين التي قد تضطر المفتي إلى ذكر أقوال أهل العلم رغبة في الوصول إلى مقصد الشريعة العظيم وهو إخراج المكلفين من الضيق والحرج الذي قد يلحقهم إن أفتاهم بقول واحد نظراً لكل ذلك ساغ ذكر الخلاف، ولذا نص بعض أهل العلم على أن للمفتي تخيير من استفتاه بين قوله وقول غيره، وممن نص على ذلك الإمام البهوتي الحنبلي في (شرح منتهى الإرادات)، وذكره عن جماعة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه.

ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل، منعه من ذلك وقال: "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم".

وصنف رجل كتاباً في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه كتاب الاختلاف؛ ولكن سمّه كتاب السعة. ولهذا كان بعض العلماء يقول: "إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة"... لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.

ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره، إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. انتهى.

ومن الأسباب التي تدعو المفتي إلى ذكر الأقوال أنه قد لا يتبين له رجحان أحد القولين لتكافؤ الأدلة -مثلاً- وهذا المنهج في الفتوى معمول به عند سلفنا من العلماء، ومن نظر في كتب الفتاوى كفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام النووي والسبكي والرملي وصاحب المعيار وصاحب النوازل وغيرهم علم حقيقة ما قلناه. ومع ذلك فإنا نسعى جاهدين، أن نبحث المسألة من كل جوانبها معملين النظر في الأدلة والدلالات مهتدين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز فَهْمَ خير القرون وسلف هذه الأمة، دون إغفال لمقاصد الشريعة، والله نسأل التوفيق والسداد، والله أعلم.