حقيقة الاعتكاف و الأصل في مشروعيته وجوازه

السؤال: ما هي حقيقة الاعتكاف ؟ وما هو الأصل في مشروعيته وجوازه

الإجابة

الإجابة: بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فإن الاعتكاف هو لزوم الشيء ، يقال : عَكَف على الشيء إذا لبث عنده ولزمه ، ومنه قوله تعالى: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . }
وأما الاعتكاف في شريعة الله - تعالى - : فهو لزوم المسجد لطاعة الله - عز وجل - .
وقرر العلماء - رحمهم الله - أن الاعتكاف الشرعي لا يكون إلا بلزوم المساجد ، ومذهب جمهور العلماء - رحمهم الله - على أنه لا يصح في غير المسجد .
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للمرأة وحدها أن تعتكف في مسجد بيتها .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ؛ لظاهر الكتاب في قوله - سبحانه - : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }. فدل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في بيوت الله - تعالى - وهي المساجد .
وقول العلماء : (( إن الاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله )) أي من أجل طاعة الله - عز وجل - ، فلا يكون الاعتكاف اعتكافا شرعيا إلا إذا قصد صاحبه التقرب لله - تعالى - بالطاعات المختلفة من : الصلاة ، والذكر ، ومن التسبيح ، والتحميد والتكبير ، وتلاوة القرآن ، والاستغفار ، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وغير ذلك مما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
والأصل في مشروعية الاعتكاف قوله - عز وجل { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود } ِ . فبين عز وجل شرف الاعتكاف وفضله ، وأنه مشروع ، حينما بيّن أن بيته الحرام الذي هو أفضل البيوت على وجه الأرض على الإطلاق ، أنه أمر خليله ، وعبده إبراهيم - تعالى - أن يطهّره من أجل العاكفين ، وهذا يدل على فضل الاعتكاف وشرفه ، وعلوّ منزلته .
وقال عز وجل : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }. فعظّم الاعتكاف ، وجعل للاعتكاف حرمة ، حيث حظَر على الزوج أن يباشر زوجته وهو معتكف ، وهذا يدلّ دلالة واضحة على مشروعية الاعتكاف ، وأنه قربة لله - تعالى - توجب الإمساك عن بعض ما حظر .
وأما دليل السّنة فإن النّبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان ، واعتكف العشر الوسطى كما في الصحيح من حديث أبي موسى رضي الله عنه وأرضاه - ونزل عليه الوحي ، وذلك في آخر ليلة من ليالي العشر الوسطى ، نزل عليه جبريل - تعالى - وقال : " يا محمد ، إن الذي تطلبه أمامك " يعني ليلة القدر . فأمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يعتكفوا معه العشر الأواخر ، فدلّ هذا على مشروعيّة الاعتكاف ، فثبت الاعتكاف بالقول من سنّة النّبي - صلى الله عليه وسلم - ، وثبت بالفعل ، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل الاعتكاف .
وأجمع العلماء - رحمهم الله - على مشروعيّة الاعتكاف ، وأنه قربة لله - تعالى - ، وطاعة لله - عز وجل - ، ويتأكّد استحباب هذه العبادة العظيمة في العشر الأواخر من شهر رمضان ، وهي جائزة في سائر السَنّة ، يجوز للمسلم أن يعتكف في المسجد في أي ليلة ، وفي أي يوم ، وفي أي ساعة على الصحيح : أن الاعتكاف ليس له حد أدنى ؛ لعدم عدم ثبوت التحديد والتأقيت، ولذلك لا يتقيد بزمان ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة - رحمهم الله - على مشروعية الاعتكاف في سائر السنة وليس مخصوصا في رمضان ، وأنه يجوز للمسلم أن يعتكف في أيّ يوم أو في أي ليلة ، ما عدا من يشترط الصوم ، فإنه يمنع إذا كان يوما محظورا على المسلم أن يصومه .
ويتأكّد الاستحباب في العشر الأواخر ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأواخر ، وقد ثبت عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه قضى اعتكافه في رمضان في شوّال " ، وهذا يدلّ على مشروعية الاعتكاف في سائر السَنّة ، لأنه أنزل ليالي في شوال منزلة الليالي من رمضان ، فدل هذا على صحة الاعتكاف في سائر السنة . والإجماع منعقد على أن هذه العبادة والطاعة مما يتقرّب بها إلى الله - تعالى - إذا حفظ العبد حدودها ، وقام بحقوقها ، وأداها على وجهها ؛ نال بركتها وخيرها ، فعظم ثوابه ، وحسن جزاؤه عند الله - عز وجل - ، ولذلك قلّ أن ترى عينك رجلا قام بالاعتكاف على وجهه إلا وجدت أثره في نفسه، وفي قوله وعمله .
ومن الناس من يخرج من اعتكافه صالح الحال سائر السَنّة ، ومن الناس من يخرج بالقليل والكثير ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، نسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجعل لنا من فضله أوفر الحظ والنصيب ، والله تعالى أعلم