هل القاعدة الفقهية حجة يصح الاستدلال بها؟

السؤال: هل القاعدة الفقهية حجة يصح الاستدلال بها؟

الإجابة

الإجابة: القاعدة الفقهية ليست حجة، والقواعد الفقهية مأخوذة من استقراء النصوص الشرعية، وإنما القاعدة يستنبط منها والخلاف على درجات.

فأقبح وأسوأ خلاف، الخلاف الذي يصادم نصاً فينكر على مخالف النص وإن كان فقيهاً، لذا القاعدة التي تقول: المسائل التي فيها خلاف لا إنكار فيها ليست على إطلاقها، وعالج ابن القيم هذه القاعدة معالجة جيدة، فعلماء الكوفة كانوا يقولون بحل النبيذ، وأهل مكة كانوا يقولون بحل محاشر النساء، ثم مات الخلاف، والمحققون من الحنفية يخطئون من يقول بحل النبيذ، فلو أن رجلاً اليوم أحيا خلاف أهل الكوفة بيننا أنقول لا ينكر في المسائل التي فيها خلاف، أم ننكر عليه؟ ننكر عليه.

وكان الإمام أحمد في بغداد وأهل الرأي في بغداد، فلما سمع الإمام أحمد بعض الناس المتصدرين للفقه يجوزون النبيذ، ألف كتابه المطبوع اليوم (كتاب الأشربة)، ويذكر العلماء في ترجمته أنه كان في كمه دائماً وكان أينما جلس قرأ على جلاسه منه حتى قضى على هذه الفتنة.

فهذا الخلاف الأول، ولا يعبأ بالمخالف، لكن يعتذر له، إلا المسائل التي تزاحمتها النصوص، واعلموا أن كل مسألة المحققون على اختلاف أعصارهم وأمصارهم اختلفوا فيها، وبقي الخلاف فيها ممتداً فالخلاف في مثل هذه المسألة معتبر، مثل مسألة الخلاف في القراءة خلف الإمام فكتب بعضهم ورقة يظن كاتبها أنه سيقضي على الخلاف بين العلماء في هذه الورقة، وهذا خطأ، فقد ألف علماء شبه القارة الهندية في القرن الرابع عشر والثالث عشر ألف رسالة أو أكثر، في مسألة القراءة خلف الإمام، والعلماء المعتبرون من القديم إلى الآن لم يتفقوا على قول واحد في المسألة فالخلاف معتبر.

الدرجة الثانية في الخلاف مسألة لا نص فيها، وتخرج على القواعد، ومسألة تتزاحمها قواعد مختلفة فالخلاف هنا واسع.

الدرجة الثالثة من الخلاف، مسألة لا نص فيها ولا تقبل التخريج على القواعد، وإنما الجواب فيها مقاصد الشريعة، فالخلاف هنا أوسع.

والفقيه من يعرف الخلاف، وسبب الخلاف وفي أي المسائل الخلاف معتبر، وفي أي المسائل الخلاف غير معتبر، وقال قتادة رحمه الله: "من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم أنفه رائحة الفقه" فمعرفة الخلاف من الأمور المهمة.

.. فالقواعد الفقهية ليست بحجة، وإنما تبنى المسائل عليها، ومن أسباب معرفة الراجح من المرجوح ومعرفة الحق من الباطل في مسائل الفقه، أن تعرف سبب الخلاف، وأن تتصوره، فمن تصور سبب الخلاف يحسن متى يقوي اللهجة إن خالف، ومتى يضعفها، متى يعذر ومتى لا يعذر.

ومن الكتب النادرة بل تكاد تكون درة يتيمة التي اعتنت من بين كتب الفقه بأسباب اختلاف الفقهاء في كل مسألة على انفراد كتاب ابن رشد (بداية المجتهد ونهاية المقتصد)، فيذكر منه اختلاف العلماء، وفيه سمة لا توجد في غيره، حيث يقول لك بعد ذكر الخلاف أو قبله: "وسبب اختلاف العلماء في هذه المسألة..."، ويذكر لك سبب الاختلاف، فمن يقرأه تتقوى ملكته في الفقه، وقد نبه على هذا في كتاب الصرف، فقال: "كما نجد أكثر متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة إلا الذي يقدر على عملها. وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يصنع لكل قدم خفاً يوافقه فهذا مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت"، فحال الذي عنده ملكة فقهية كحال الذي يصنع الخفاف، واليوم نحتاج للصناع لا الذين يبيعون فنحتاج لمن عنده ملكة فقهية.

فالملكة الفقهية من الأمور المهمة التي ينبغي لطلبة العلم أن يحصلوها، من خلال النظر في كتب القواعد والأصول، وأسباب اختلاف العلماء والأشباه والنظائر للمسائل وهي من الأمور المهمة تقوي الترجيح لأن الشرع قواعد مطردة وإن لم يكتب في الأشباه والنظائر إلا أصحاب المذاهب لكن النظر فيها مهم، والله أعلم.