فَصْل: في عود المواقيت إلى الأهله

السؤال: فَصْل: في عود المواقيت إلى الأهله

الإجابة

الإجابة: لما ظهر بما ذكرناه عود المواقيت إلى الأهله؛ وجب أن تكون المواقيت كلها معلقة بها، فلا خلاف بين المسلمين أنه إذا كان مبدأ الحكم في الهلال حسبت الشهور كلها هلالية، مثل أن يصوم للكفارة في هلال المحرم، أو يتوفى زوج المرأة في هلال المحرم، أو يولي من امرأته في هلال المحرم، أو يبيعه في هلال المحرم إلى شهرين أو ثلاثة، فإن جميع الشهور تحسب بالأهلة، وإن كان بعضها أو جميعها ناقصًا‏.

‏‏ فأما إن وقع مبدأ الحكم في أثناء الشهر، فقد قيل‏:‏ تحسب الشهور كلها بالعدد بحيث لو باعه إلى سنة في أثناء المحرم عد ثلاثمائة وستين يومًا، وإن كان إلى ستة أشهر عد مائة وثمانين يومًا، فإذا كان المبتدأ منتصف المحرم كان المنتهي العشرين من المحرم‏.‏ وقيل‏:‏ بل يكمل الشهر بالعدد، والباقي بالأهلة، وهذان القولان روايتان عن أحمد وغيره، وبعض الفقهاء يفرق في بعض الأحكام‏.

‏‏ ثم لهذا القول تفسيران‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يجعل الشهر الأول ثلاثين يومًا، وباقي الشهور هلالية، فإذا كان الإيلاء في منتصف المحرم حسب باقيه، فإن كان الشهر ناقصًا أخذ منه أربعة عشر يومًا، وكمله بستة عشر يومًا من جمادي الأولي، وهذا يقوله طائفة من أصحابنا وغيرهم‏.‏

والتفسير الثاني هو الصواب الذي عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا أن الشهر الأول إن كان كاملاً كمل ثلاثين يومًا، وإن كان ناقصًا جعل تسعة وعشرين يومًا، فمتي كان الإيلاء في منتصف المحرم كملت الأشهر الأربعة في منتصف جمادي الأولي، وهكذا سائر الحساب، وعلى هذا القول، فالجميع بالهلال ولا حاجة إلى أن نقول بالعدد، بل ننظر اليوم الذي هو المبدأ من الشهر الأول، فتكون النهاية مثله من الشهر الآخر، فإن كان في أول ليلة من الشهر الأول كانت النهاية في مثل تلك الساعة بعد كمال الشهور، وهو أول ليلة بعد انسلاخ الشهور، وإن كان في اليوم العاشر من المحرم كانت النهاية في اليوم العاشر من المحرم أو غيره على قدر الشهور المحسوبة، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، ودل عليه قوله‏:‏ ‏{‏‏قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏، فجعلها مواقيت لجميع الناس، مع علمه سبحانه أن الذي يقع في أثناء الشهور أضعاف أضعاف ما يقع في أوائلها، فلو لم يكن ميقاتًا إلا لما يقع في أولها لما كانت ميقاتًا إلا لأقل من ثلث عشر أمور الناس، ولأن الشهر إذا كان ما بين الهلالين، فما بين الهلالين مثل ما بين نصف هذا ونصف هذا سواء، والتسوية معلومة بالاضطرار‏‏ والفرق تحكم محض‏.‏

وأيضًا، فمن الذي جعل الشهر العددي ثلاثين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال "الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا‏‏ وخَنَسَ إبهامه في الثالثة"‏‏ ونحن نعلم أن نصف شهور السنة يكون ثلاثين، ونصفها تسعة وعشرين‏؟‏‏!‏ وأيضًا، فعامة المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم إذا أجل الحق إلى سنة، فإن كان مبدؤه هلال المحرم، كان منتهاه هلال المحرم، سَلْخ ذي الحجة عندهم‏‏ وإن كان مبدؤه عاشر المحرم كان منتهاه عاشر المحرم أيضًا، لا يعرف المسلمون غير ذلك، ولا يبنون إلا عليه، ومن أخذ ليزيد يومًا لنقصان الشهر الأول؛ كان قد غير عليه م ما فطروا عليه من المعروف، وأتاهم بمنكر لا يعرفونه‏.

‏‏ فعلم أن هذا غلط ممن توهمه من الفقهاء، ونبهنا عليه ليحذر الوقوع فيه، وليعلم به حقيقة قوله‏:‏ ‏{‏‏قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏، وإن هذا العموم محفوظ عظيم القدر، لا يستثني منه شيء‏.

‏‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}‏‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}‏‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏، يبين بذلك أن جميع عدد السنين والحساب تابع لتقديره منازل‏.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس والعشرون (الفقه - باب الصيام)