أصل النسبة في الصوفية

السؤال: أصل النسبة في الصوفية

الإجابة

الإجابة: النسبة في الصوفيةة، إلى الصوف؛ لأنه غالب لباس الزهاد، وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت‏.

‏‏ وأما من قال‏:‏ هم نسبة إلى الصفة، فقد قيل‏:‏ كان حقه أن يقال‏:‏ صفية، وكذلك من قال‏:‏ نسبة إلى الصفا، قيل له‏:‏ كان حقه أن يقال‏:‏ صفائية، ولو كان مقصوراً لقيل صفوية، وإن نسب إلى الصفوة قيل‏:‏ صفوية‏.

‏‏ ومن قال‏:‏ نسبة إلى الصف المقدم بين يدي اللّه‏.

‏‏ قيل له‏:‏ كان حقه أن يقال‏:‏ صفية، ولا ريب أن هذا يوجب النسبة والإضافة، إذا أعطى الاسم حقه من جهة العربية‏.

‏‏ لكن التحقيق، أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الاشتقاق الأكبر والأوسط، دون الاشتقاق الأصغر، كما قال أبو جعفر‏:‏ العامة اسم مشتق من العمى، فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب، وهو الاشتقاق الأوسط، أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر‏.

‏‏ وعلى الأوسط قول نحاة الكوفيين الاسم، مشتق من السمة‏.‏

وكذلك إذا قيل الصوفي من الصفا، وأما إذا قيل هو من الصفة أو الصف، فهو على الأكبر‏.

‏‏ وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وغيره، وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره، وأما الشافعي فالمنقول عنه ذم الصوفية، وكذلك مالك فيما أظن وقد خاطب به أحمد لأبي حمزة الخراساني، وليوسف بن الحسين الرازي، ولبدر ابن أبي بدر المغازلي، وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم، ومن العباد أيضاً من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأهل الحديث، والعباد، ومدحه آخرون‏.‏

والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم، كغيره من الطريق، وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا، وقد لا يكون، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة، والقاعدة التي قدمتها تجمع ذلك كله، وفي المتسمين بذلك من أولياء اللّه وصفوته، وخيار عباده ما لا يحصى عده‏.

‏‏ كما في أهل الرأي من أهل العلم والإيمان من لا يحصى عدده إلا اللّّه‏.

‏‏ واللّّه سبحانه أعلم‏.

‏‏ وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين، وإن كانت في الأصل مذمومة، كما دل عليه الكتاب والسنة، سواء في ذلك البدع القولية والفعلية‏.

‏‏ وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل بدعة ضلالة‏" متعين، وإنه يجب العمل بعمومه، وإن من أخذ يصنف ‏[‏البدع‏]‏ إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى ألا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة والمتصوفة، والمتعبدة، إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع ادعوا ألا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال‏:‏ كل ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة‏.

‏‏ وما سمي بدعة، وثبت حسنه بأدلة الشرع، فأحد الأمرين، فيه لازم‏:‏

إما أن يقال‏:‏ ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة‏.‏

كما قال عمر‏:‏ نعمت البدعة هذه‏.

‏‏ وإما أن يقال‏:‏ هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح، كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم، وفي قاعدة السنة والبدعة، وغيره‏.‏

وإنما المقصود هنا، أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص، فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع، وقررته أيضاً في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد‏.

‏‏ فإن نصوص الوعيد، التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير، والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول، والفروع‏.

‏‏ هذا في عذاب الآخرة، فإن المستحق للوعيد من عذاب اللّه ولعنته وغضبه في الدار الآخرة، خالد في النار، أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق، يدخل في هذه القاعدة، سواء كان بسبب بدعة اعتقادية، أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا، وهو الفسق بالأعمال‏.

‏‏ فأما أحكام الدنيا، فكذلك أيضاً، فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقاً بدعوتهم، إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة، وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة‏.

‏‏

وَهُنا قَاعِدةٌ شريفَة ينبغي التفطن لها وهى‏:‏

أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه، فعقوبتنا له في الدنيا أكبر، وأما ما عاد من الذنوب بمضرة الإنسان في نفسه، فقد تكون عقوبته في الآخرة أشد، وإن كنا نحن لا نعاقبه في الدنيا‏.

‏‏ وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس، فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط‏.‏

والثاني‏:‏ فعل ما يضر به وهو العدوان‏.

‏‏ فالتفريط في حقوق العباد‏‏‏.‏

ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع، بما لا يعاقب به الساكت، ويعاقب من أظهر المنكر بما لا يعاقب به من استخفى به، ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين، وإن كان في الدرك الأسفل من النار‏.

‏‏ وهذا لأن الأصل، أن تكون العقوبة من فعل اللّه تعالى فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الآخرة، وقد يجزيهم أيضاً في الدنيا‏.‏ وأما نحن، فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات، وترك المحرمات بحسب إمكاننا، كما قال صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه‏" وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏ ‏.‏

ولهذا من تاب من الكفار، والمحاربين، وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق اللّه، فإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه، وأهله، وماله، وكذلك قاطع الطريق، والزاني والسارق، والشارب إذا تابوا قبل القدرة عليهم؛ لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الحدود وحصول الفساد؛ ولأن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلامه؛ لأنه أسلم قبل القدرة عليه، بخلاف من أسلم بعد الأسر، فإنه لا يمنع استرقاقه وإن عصم دمه‏.

‏‏ ويبنى على هذه القاعدة‏:‏ أنه قد يقر من الكفار والمنافقين، بلا عقوبة من يكون عذابه في الآخرة أشد، إذا لم يتعد ضرره إلى غيره، كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون، والذين أظهروا الإسلام والتزموا شرائعه ظاهراً مع نفاقهم؛ لأن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين، ويعاقبون في الآخرة على ما اكتسبوا من الكفر والنفاق، وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلماً فاسقاً، أو عاصياً، أو عدلاً مجتهداً مخطئاً، بل صالحاً أو عالماً سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع‏.

‏‏ مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وشهادة الزور، وقطع الطريق، وغير ذلك لما فيه من العدوان على النفوس والأموال والأبضاع، وإن كان مع هذا حال الفاسق في الآخرة خيراً من حال أهل العهد الكفار، ومن حال المنافقين، إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والإجماع‏.

‏‏ وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم، وإن كان قد يكون معذوراً فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد‏.

‏‏ وكذلك يجوز قتال البغاة‏:‏ وهم الخارجون على الإمام، أو غير الإمام بتأويل سائغ مع كونهم عدولاً، ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غير ذلك‏.‏

إذ الصحابة لا خلاف في بقائهم على العدالة، وذلك أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ‏.‏

وأما القتال‏:‏ فليؤدوا ما تركوه من الواجب، و ينتهوا عما ارتكبوه من المحرم، وإن كانوا متأولين‏.

‏‏ وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه، وإن كانوا قوماً صالحين، فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب، أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا، وإن كانوا معذورين فيه؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا، كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وإن كان قد تاب توبة نصوحاً، وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره، وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم، فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة، وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم‏:‏ القاتل مجاهد والمقتول شهيد‏.

‏‏ وعلى هذا، فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر، فلا يستشهد ولا يروي عنه، ولا يستفتى ولا يصلي خلفه، قد يكون من هذا الباب، فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائباً أو معذوراً، إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين‏:‏ إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله، فأما هجره بترك ‏.‏‏.‏‏.‏في غير هذا الموضع‏.

‏‏ ومن هذا الباب‏:‏ هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد، ولمن تاب بعد الإجابة، ولمن فعل بدعة ما، مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة، فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم، كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق‏.‏حتى قد قيل أن اثنين منهما شهدا بدراً، وقد قال اللّه لأهل بدر "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏" وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأحد أهل العقبة، فهذا أصل عظيم أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلاً، أو رجلاً صالحاً كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة، وبين عقوبة الآخرة، واللّه سبحانه أعلم.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.