ما ورد بشأن الإفتاء والمفتين

السؤال: ما ورد بشأن الإفتاء والمفتين

الإجابة

الإجابة: وصل كتابك الأول، المتضمن ثلاث مسائل، وقد نشر الجواب على السؤال الأول، ثم وصل كتابك الثاني والثالث الذي تلومنا فيه على تأخير الجواب، وتذكر أن هذه المسائل خفيفة لا تستوجب التأخير، وأطلت سامحك الله بالعتاب، ومع أنك طالب علم، وربما أنك قد سمعت بعض ما ورد في شأن الإفتاء والتسرع فيه، إلا أني أزيدك فائدة قد تخفى عليك، وهي أن الإفتاء أمره عظيم.

كان السلف رحمهم الله تعالى يهابون الفتيا، ويشددون فيها، ويتدافعون عنها.
. قال النووي (1): روينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية: ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.أ.ه.. وأنكر الإمام أحمد وغيره على من يهجم على الجواب. وقال: لا ينبغي للرجل أن يجيب في كل ما يستفتى فيه، وقال أيضا (2): إذا هاب الرجل شيئا فلا ينبغي أن يُحمل على أن يقول. وقال: لا ينبغي للرجل الفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
- إحداها: أن تكون له نية، أي يخلص في ذلك لله تعالى.
- الثانية: أن يكون له حلم، ووقار، وسكينة.
- الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه، وعلى معرفته؛ وإلا قد عرض نفسه لعظيم.
- الرابعة: الكفاية؛ وإلا أبغضه الناس، فإنه إذا لم تكن له كفاية احتاج إلى الأخذ مما في أيديهم، فينفرون منه.
- الخامسة: معرفة الناس، أي ينبغي له أن يكون بصيرا بمكر الناس، وخداعهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرا فطنا مما يصورونه في سؤالاتهم؛ لئلا يوقعوه في المكروه.

. قال الخطيب (3): وينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه، ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عاد.

* إذا عُرف هذا، فهناك مسائل من أحكام الفتيا ينبغي معرفتها، وملاحظتها:
- أولا: أنه لا يلزم المفتي أن يجيب على كل ما يسأل عنه، فما زال العلماء سلفاً وخلفاً يتوقفون في بعض المسائل، ويقولون: (لا أدري)، فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سئل عن ميراث العمة (4)، فقال: (لا أدري). فقال السائل: أنت لا تدري! قال: نعم، اذهب إلى العلماء في المدينة، فاسألهم، فلما أدبر، قبّل ابن عمر يدي نفسه. وقال: نعِمّا. قال أبو عبد الرحمن؛ يعني نفسه، سئل عما لا يدري، فقال: (لا أدري). وقال الإمام مالك (5): من فقه العالم أن يقول: (لا أعلم)، فإنه عسى أن يتهيأ له الخير. وقال الشعبي (6): (لا أدري) نصف العلم.

- ثانيا: أنه لا يلزم جواب ما لم يقع من المسائل. قال ابن عباس لمولاه عكرمة (7): اذهب فأفت الناس، وأنا لك عون، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس. وكان بعض السلف إذا سئل عن المسألة يقول للسائل: هل وقعت؟ فإن قال: لا، لم يجبه، وقال: دعنا في عافية. وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، فالضرورة تبيحه كما تبيح أكل الميتة عند الاضطرار ما لم يكن فيها نص ولا إجماع.

- ثالثا: أنه لا يلزم جواب ما لا يحتمله السائل. وفي البخاري (8): قال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذّب الله ورسوله؟"، وقال ابن عباس لرجل سأله عن تفسير آية: "وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به".

- رابعا: لا يلزم جواب ما لا نفع فيه، وما كان من المسائل التافهة، أو التي فيها تعنت، أو مغالطة، روى الإمام أحمد (9) عن ابن عباس أنه قال عن الصحابة: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. وسئل الإمام أحمد (10) عن مسألة في اللعان. فقال: سل رحمك الله عما ابتُليت به. وسُئل (11) عن يأجوج ومأجوج: أمسلمون هم؟ فقال للسائل: أَحْكَمْتَ العلم حتى تسأل عن هذا؟!

- خامسا: للمفتي رد الفتيا إذا لم يأمن غائلتها، وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها، ترجيحا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما.

- سادسا: يجوز للمفتي أن يعدل عن جواب المسئول عنه إلى ما هو أنفع منه، لاسيما إذا تضمن ذلك تبيان ما سأل عنه.

- سابعا: ينبغي للمفتي إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعو إليه أن يدله على ما هو عوض عنه، فيسد عنه باب المحظور، ويفتح له باب المباح.

- ثامنا: للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأل، وقد ترجم البخاري على هذا في (صحيحه) (12).

- تاسعا: إذا أفتى المفتي بالفتوى فينبغي له أن ينبه السائل على ما يجب الاحتراز منه خشية الوهم.

. وبالجملة فالفتوى أمرها عظيم، وخطرها جسيم، فلا ينبغي التسرع فيها، ولا التساهل. وسئل الإمام مالك (13) عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل: إنها مسألة خفيفة، سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (14)، فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. وقد تقدم قولة الإمام أحمد: إنه ينبغي للمفتي أن يكون فيه خمس خصال، فذكر منها أن يكون له حلم، ووقار، وسكينة. وقال سُحنون بن سعيد (15): أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما؛ يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه. وقال أيضا (16): إني لأحفظ مسائل، منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير، فلمَ أُلام على حبسي الجواب؟

. وقال ابن سيرين (17): قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحدُ ثلاثة: إما عالم، أو أمير لا يجد بُدّاً، أو أحمق متكلف. قال ابن سيرين: فلست بواحد من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث؛ يعني الأحمق المتكلف.

. وفي كلام حذيفة هذا دليل على أن الإنسان المتعين للفتوى، الذي لا يجد بُدّاً منها، له من الأحوال، وملابسة الظروف ما يسوغ له أن يفتي فيما يرد عليه، ولو بغلبة الظن، فإنه إذا وقعت المسألة، وتعين له الجواب، وصَدَق في اللجوء إلى الله تعالى أن يلهمه الصواب في هذه الواقعة، وانبعث من قلبه الافتقار إلى ربه أن يفتح له طريق السداد- صارت المسألة أشبه بحال الضرورة فيكون التوفيق إلى الصواب أقرب، والله الموفق للصواب، لا رب غيره، ولا إله سواه، سبحانه وبحمده، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

___________________________________________

1 - مقدمة (المجموع) (1/74).
2 - نقله ابن مفلح في (الآداب الشرعية) (2/ 62، 63) عن رواية الأثرم.
3 - مقدمة (المجموع) (1/ 75)، وهو في (الفقيه والمتفقه) بمعناه (2/ 153، 154).
4 - ذكره ابن مفلح في (الآداب الشرعية) (2/ 64).
5 - (جامع بيان العلم) (2/53،54).
6 - (الفقيه والمتفقه) (2/ 173)، وهو في الدارمي (1/ 63).
7 - (الجرح والتعديل) (7/8)، و(تهذيب الكمال) (20/ 269)، والذهبي في (السير) (5/ 14).
8 - أخرجه البخاري (1/ 127).
9 - رواه الدارمي (1/50، 51)، وذكره ابن مفلح في (الآداب الشرعية) (2/ 73)، وهو في الطبراني (الكبير) (11/ 454).
10 - ذكره ابن مفلح في (الآداب الشرعية) (2/72).
11 - ذكره ابن مفلح في (الآداب الشرعية) (2/72).
12 - (2/ 231) باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله.
13 - مقدمة (المجموع) (1/ 74).
14 - سورة المزمل: الآية (5).
15 - (جامع بيان العلم) (2/ 165).
16 - (جامع بيان العلم) (2/ 165).
17 - (جامع بيان العلم) (2/ 165، 166)، وهو في الدارمي (1/ 62)، و(الفقيه والمتفقه) (2/ 156، 157).