سئل شيخ الإسلام فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم؟

السؤال: سئل شيخ الإسلام فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم؟

الإجابة

الإجابة: ما تقول السادة العلماء فيمن عزم على فعل محرم، كالزنا والسرقة، وشرب الخمر عزمًا جازمًا فعجز عن فعله‏:‏ إما بموت، أو غيره‏.

‏‏ هل يأثم بمجرد العزم أم لا‏؟‏ وإن قلتم‏:‏ يأثم، فما جواب من يحتج على عدم الإثم بقوله "إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه"‏‏‏ ‏وبقوله‏" ‏‏ إن اللّه تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، مالم تعمل أو تتكلم‏"‏‏ واحتج به من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس، والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد‏.‏

قاله ابن سيده‏.

‏‏ الثاني‏:‏ أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلام أو عمل، وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز، ويزعم ألا دلالة في قول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏"‏‏؛ لأن الموجب لدخول المقتول في النار مواجهته أخيه، لأنه عمل لا مجرد قصد، وألا دلالة في قوله صلى الله عليه وسلم في الذي قال "لو أن لي مالا لفعلت وفعلت، إنهما في الإثم سواء وفي الأجر سواء"‏‏؛ لأنه تكلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال "ما لم تعمل به أو تتكلم‏"‏‏ وهذا قد تكلم، وقد وقع في هذه المسألة كلام كثير‏.‏

واحتيج إلى بيانها مطولًا مكشوفًا مستوفًا‏.

‏‏ فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللّه روحه ونور ضريحه‏:‏

الحمد للّه، هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها، فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع عامته من أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها، التي هي مورد الكلام‏.‏

والثاني‏:‏ عدم إعطاء الأدلة الشرعية حقها، ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب، حتى يجد الناظر في كلامهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر‏.

‏‏ فينبغي أن يعلم أن كل واحد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله وآخره مالا يضبطه العباد‏:‏ كالشك، ثم الظن، ثم العلم، ثم اليقين، ومراتبه؛ وكذلك الهم والإرادة والعزم وغير ذلك؛ ولهذا كان الصواب عند جماهير أهل السنة وهو ظاهر مذهب أحمد، وهو أصح الروايتين عنه، وقول أكثر أصحابه أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان، بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي‏:‏ كالألوان والطعوم والأرواح‏.

‏‏ فنقول أولًا‏:‏ الإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها، إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل، لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم، ومتي وجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة، وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من الأفعال، ولم يفعلوه، وإن كانت هذه الإرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوتًا كثيرًا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد مع وجود القدرة التامة فليست الإرادة جازمة جزمًا تامًا‏.

‏‏ وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ لأنهم قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شيء من الفعل، وهذا لا يكون‏.‏ وإنما يكون ذلك في العزم على أن يفعل، فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئا في الحال، والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل، بل لابد عند وجوده من حدوث تمام الإرادة المستلزمة للفعل، وهذه هي الإرادة الجازمة‏.

‏‏ والإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام‏:‏ له ثواب الفاعل التام، وعقاب الفاعل التام الذي فعل جميع الفعل المراد، حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته، مثل المشتركين والمتعاونين على أفعال البر، ومنها ما يتولد عن فعل الإنسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضلالة، والسّان سّنة حسنة، وسنة سيئة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، من غير أن ينقص أوزارهم شيء‏"،، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال "من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء‏"‏‏‏.

‏‏ فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة، هو طالب مريد كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه، لكن قدرته بالدعاء والأمر، وقدرة الفاعل بالإتباع والقبول؛ ولهذا قرن اللّه تعالى في كتابه بين الأفعال المباشرة والمتولدة فقال‏:‏ ‏{‏‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏.‏ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120-121‏]‏‏.

‏‏ فذكر في الآية الأولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة، وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب، وما يحصل للكفار بهم من الغيظ، وما ينالونه من العدو‏.

‏‏ وقال‏:‏ ‏{‏‏كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ‏}‏‏، فأخبر أن هذه الأمور التي تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح، وذكر في الآية الثانية نفس أعمالهم المباشرة التي باشروها بأنفسهم‏:‏ وهي الإنفاق، وقطع المسافة، فلهذا قال فيها‏:‏ ‏{‏‏إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ‏}‏‏ فإن هذه نفسها عمل صالح، وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله للّه، وأن تكون كلمة اللّه هي العليا، فما حدث مع هذه الإرادة الجازمة من الأمور التي تعين فيها قدرتهم بعض الإعانة هي لهم عمل صالح‏.

‏‏ وكذلك الداعي إلى الهدى والضلالة، لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي الأتباع وضلالهم، وأتى من الإعانة على ذلك بما يقدر عليه، كان بمنزلة العامل الكامل، فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه‏:‏ للهادي مثل أجور المهتدين، وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري، فإن السان كامل الإرادة لكل ما يفعل من ذلك، وفعله بحسب قدرته‏.‏

ومن هذا‏:‏ قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل‏"‏‏، فالكفل النصيب مثل نصيب القاتل‏.‏

كما فسره الحديث الآخر، وهو كما استباح جنس قتل المعصوم، لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة، فصار شريكًا في قتل كل نفس، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏‏.

‏‏ ويشبه هذا أنه من كذب رسولًا معينًا كان كتكذيب جنس الرسل، كما قيل فيه‏:‏ ‏{‏‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ ‏{‏‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏ ونحو ذلك‏.

‏‏ ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏.‏ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏‏ ‏[‏ العنكبوت‏:‏ 12- 13‏]‏ فأخبر أن أئمة الضلال لا يحملون من خطايا الأتباع شيئًا، وأخبر أنهم يحملون أثقالهم، وهي أوزار الأتباع، من غير أن ينقص من أوزار الأتباع شيء؛ لأن إرادتهم كانت جازمة بذلك، وفعلوا مقدورهم، فصار لهم جزاء كل عامل؛ لأن الجزاء على العمل يستحق مع الإرادة الجازمة، وفعل المقدور منه‏.

‏‏ وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل "‏‏فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين‏"‏‏، فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الأريسيين، وهم الأتباع، وإن كان قد قيل‏:‏ أن أصل هذه الكلمة من الفلاحين والأكرة، كلفظ الطاء بالتركي، فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما هو أعم من ذلك، ومعلوم أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة‏.

‏‏ ومن هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ‏.‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ‏.‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ‏.‏ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏ 22-25‏]‏‏.

‏‏ فقوله‏:‏ ‏{‏‏وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏ هي الأوزار الحاصلة لضلال الأتباع، وهي حاصلة من جهة الآمر، ومن جهة المأمور الممتثل، فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلال؛ فلهذا كان علي هذا بعضه، وعلى هذا بعضه، إلا أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل، كما دلت عليه سائر النصوص، مثل قوله"من دعا إلى الضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة‏"‏‏‏.

‏‏ ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ}‏‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

فأخبر سبحانه أن الأتباع دعوا على أئمة الضلال بتضعيف العذاب، كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ‏.‏ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67- 68‏]‏‏.‏

وأخبر سبحانه أن لكل من المتبعين والأتباع تضعيفًا من العذاب‏.‏

ولكن لا يعلم الأتباع التضعيف‏.

‏‏ ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لأئمة الهدى، وعظيم الذم واللعنة لأئمة الضلال، حتى روى في أثر لا يحضرني إسناده "أنه ما من عذاب في النار إلا يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره، وما من نعيم في الجنة إلا يبدأ فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم ينتقل إلى غيره‏"‏‏ فإنه هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم‏.

‏‏ كما قال "أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر‏"‏‏، وهو شفيع الأولين والآخرين في الحساب بينهم؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة، وذلك أن جميع الخلائق أخذ اللّه عليهم ميثاق الإيمان به كما أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن قبله من الأنبياء؛ ويصدق بمن بعده، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ‏}‏‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏‏.‏

فافتتح الكلام باللام الموطئة للقسم التي يؤتي بها إذا اشتمل الكلام على قسم وشرط؛ وأدخل اللام على ما الشرطية ليبين العموم، ويكون المعنى‏:‏ مهما آتيكم من كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق الإيمان به ونصره‏.

‏‏ كما قال ابن عباس‏:‏ ما بعث اللّه نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه‏.‏

واللّه تعالى قد نوه بذكره وأعلنه في الملأ الأعلى، ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه، كما في حديث ميسرة الفجر قال‏:‏ ، قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ متى كنت نبيًا‏؟‏ وفي رواية متى كتبت نبيًا ‏؟‏ فقال "وآدم بين الروح والجسد‏"‏‏ رواه أحمد‏.‏

وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إني عند اللّه لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته"‏‏ الحديث‏.

‏‏ فكتب اللّه وقدر في ذلك الوقت، وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده ونفخ الروح فيه، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود ‏.

‏‏ فمن آمن به من الأولين والآخرين أثيب على ذلك، وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب من لم يأت إلا بالإيمان المجمل، على أنه إمام مطلق لجميع الذرية، وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين، كما أن كل ضلال وغواية في الجن والإنس لإبليس منه نصيب، فهذا يحقق الأثر المروي ويؤيد ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا إما من مراسيل الزهري، وإما من مراسيل من فوقه من التابعين قال "بعثت داعيًا وليس إلى من الهداية شيء، وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس إليه من الضلالة شيء‏"‏‏‏.‏

ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه‏:‏ قوله في الحديث الذي في السنن" وزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان‏"‏‏‏.‏

فأما كون النبي صلى الله عليه وسلم راجحًا بالأمة فظاهر؛ لأن له مثل أجر جميع الأمة مضافا إلى أجره‏.

‏‏ وأما أبو بكر وعمر؛ فلأن لهما معاونة مع الإرادة الجازمة في إيمان الأمة كلها، وأبو بكر كان في ذلك سابقًا لعمر وأقوى إرادة منه، فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان الأمة في دقيق الأمور وجليلها؛ في محياه وبعد وفاته‏.

‏‏ ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد‏ "أفي القوم محمد‏؟‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ فقال النبي لا تجيبوه‏.‏ فقال‏:‏ أما هؤلاء فقد كفيتموهم‏.‏ فلم يملك عمر نفسه أن قال‏:‏ كذبت ياعدو اللّه‏!‏ إن الذي ذكرت لأحياء وقد بقى لك ما يسوؤك" رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب، فأبو سفيان رأس الكفر حينئذ لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم قادة المؤمنين‏.

‏‏ كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال‏:‏ واللّه ما على وجه الأرض أحد أحب أن ألقي اللّه بعمله من هذا المسجي، واللّه إني لأرجو أن يحشرك اللّه مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر‏"‏‏‏.

‏‏ وأمثال هذه النصوص كثيرة، تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع الأمة، لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من القدرة على ذلك كله، بخلاف من أعان على بعض ذلك دون بعض، ووجدت منه إرادة في بعض ذلك دون بعض‏.‏

وأيضًا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل، وإن لم يكن إمامًا وداعيًا، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏.‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95- 96‏]‏‏.

‏‏ فاللّه تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز، بل يقال‏:‏ دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه‏.‏ ولفظ الآية صريح‏.

‏‏ استثنى أولو الضرر من نفي المساواة، فالاستثناء هنا هو من النفي، وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين، وإن لم يساووهم في الجميع، ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهم بالمدينة‏.‏ قال‏:‏ ‏‏وهم بالمدينة حبسهم العذر‏"‏‏، فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة‏.

‏‏ ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته، فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر‏.

‏‏ ومن هذا الباب‏:‏ ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم‏"‏‏، فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر؛ ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة، لا لضعف النية وفتورها، فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة، ما للعامل والمسافر وإن كان قادرًا مع مشقة كذلك بعض المرض، إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان، بل لابد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة، بل أو مكافية‏.

‏‏ ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا‏"‏‏، وقوله "من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء‏"،، فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، فإذا بذل هذا بدنه، وهذا ماله مع وجود الإرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهدًا بإرادته الجازمة ومبلغ قدرته، وكذلك لابد للغازي من خليفة في الأهل، فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضًا غاز، وكذلك الصيام لابد فيه من إمساك، ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم، و إلا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم‏.

‏‏ وكذلك قوله في الحديث الصحيح "إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجور بعض شيئًا‏"‏‏ وكذلك قوله في حديث أبي موسى "الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين‏"‏‏ أخرجاه‏.‏

وذلك أن إعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرًا طيبة به نفسه لا يكون إلا مع الإرادة الجازمة الموافقة لإرادة الآمر، وقد فعل مقدوره وهو الامتثال، فكان أحد المتصدقين‏.

‏‏ ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنما الدنيا لأربعة‏:‏ رجل آتاه اللّه علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة اللّه‏، فقال رجل‏:‏ لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏فهما في الأجر سواء"‏‏‏، وقد رواه الترمذي مطولا، وقال‏:‏ حديث حسن صحيح، فهذا التساوي مع ‏(‏الأجر والوزر‏)‏ هو في حكاية حال من قال ذلك، وكان صادقًا فيه، وعلم اللّه منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب‏.

‏‏ وليس هذه الحال تحصل لكل من قال‏:‏ ‏(‏لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل‏)‏ إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة، وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم، لو اقترنت به القدرة لانفسخت عزيمته، كعامة الخلق يعاهدون وينقضون، وليس كل من عزم على شيء عزمًا جازمًا قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة عند القدرة المقارنة للصوارف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 143‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ‏}‏‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ‏.‏ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75- 76‏]‏‏.‏

وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات‏.

‏‏ وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم‏ "أن رجلًا من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ينشر اللّه له يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مدى البصر، ويقال له‏:‏ هل تنكر من هذا شيئًا‏؟‏ هل ظلمتك‏؟‏ فيقول‏:‏ لا يارب‏.‏ فيقال له‏:‏ لا ظلم عليك اليوم، فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة‏"‏‏‏.‏

فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية، إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة، فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما‏.

‏‏ ومثل هذا الحديث الذي في حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر اللّه لها، فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة إذ ذاك، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللّه ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب اللّه له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط اللّه ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب اللّه له بها سخطه إلى يوم القيامة‏".



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.