البناء على قبور الصالحين والعكوف عندها

السؤال: يوجد في بلادي قبر ميت، يقال إنه من الصالحين، وقد بني عليه بيت مزخرف ومزين الزينة الكاملة، وله رجلان "مناصيب" كما يقولون، قد توارثوا هذه المنصبة أباً عن جد، فتجدهم يدعون الناس بقولهم: إن صاحب القبر قال الليلة كذا وكذا وطلب كذا، وقد اجتذب قلوب الناس الذين هم يسكنون حول هذا القبر فصاروا يعتقدون كل ما يقول هذا المنصوب فتراهم يتقربون ويطوفون ويذبحون، و.. و... إلخ، فما هو حكم من اعتقد بضر ونفع هذا الولي، وهل يجوز النذر والذبح للولي، ثم ما هو الواجب على الفرد الواحد إذا كان يعلم أن هذا ينافي الشرع علماً أن هذا الفرد المذكور يسكن مع هؤلاء؟

الإجابة

الإجابة: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور جاء مبيناً في الأحاديث الصحيحة، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن بريدة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا للمقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أنتم لنا فرط، وأسأل الله لنا ولكم العافية".
وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر"، وقد درج على ذلك الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وهؤلاء الذين يقصدون صاحب القبر إن كانوا يفعلون ذلك من أجل دعاء الله عنده، ويظن قاصده أن هذا أجدى للدعاء ويريد التوسل به والاستشفاع به فهذا لم تأت به الشريعة، والوسائل لها حكم الغايات في المنع، قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}، فدلت الآية على أن هذا المدعو إما أن يكون مالكاً أو لا، وإذا لم يكن مالكاً فإما أن يكون شريكاً أو لا، وإذا لم يكن شريكاً فإما أن يكون معيناً أو لا، وإذا لم يكن معيناً فإما أن يكون شافعاً بغير إذن الله أو لا، والأقسام الأربعة باطلة، فتعين الأخير وهو: أن الشافع لا يشفع إلا بإذنه، وقد دل قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} على أن رضاه عن المشفوع شرط، فهذان شرطان للشفاعة.

والصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يتوسلون بذات الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم، فالاستعانة بالحي الحاضر القادر فيما يقدر عليه جائزة، ولا يجوز أن يطلب منه ما هو من حق الله جل وعلا، هذا في الحي، فأما الميت فلا يجوز التوسل به والاستشفاع به مطلقاً، بل هو وسيلة من وسائل الشرك كما سبق.

وأما من يعكف عند هذا القبر فلا يخلو من أمرين:
أحدهما: أن يكون الغرض منه عبادة الله، فهذا لا يجوز؛ لما فيه من الجمع بين معصية العكوف ومعصية عبادة الله عند القبر، وذلك من وسائل الشرك التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة لتحريم العكوف فروى الترمذي في جامعه وصححه، عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؛ قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم"، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر الذي طلبوه منه وهو اتخاذه شجرة للعكوف عندها وتعليق الأسلحة بها تبركاً كالأمر الذي طلبه بنو إسرائيل من موسى عليه السلام، فكذا العكوف عند القبور، وروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه في سننهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".
وأما بالنسبة لعبادة الله عندها فقد نهى عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد يشمل اتخاذها لعبادة الله أو لعبادة غير الله سواء كانت في مسجد مبني أو لا?
وأما المجيء إلى صاحب هذا القبر ودعاؤه واعتقاد أنه يملك النفع والضر فهذا شرك أكبر، ومن فعل ذلك فإما أن يكون جاهلاً أو عالماً، فإن كان عالماً فهو مشرك شركاً أكبر يخرجه عن الإسلام، وإن كان جاهلاً فإنه يبين له، فإن رجع إلى الحق فالحمد لله، وإن لم يرجع إلى الحق، فإنه كالعالم في الحكم، والأدلة على ذلك كثيرة، قال: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} إلخ السورة، وقال تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد}، وفي الحديث القدسي: "من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"

وأما ما ذكره السائل من بناء بيت مزين ومزخرف على هذا القبر فهذا لا يجوز، فإنه من تعظيم صاحب القبر تعظيماً مبتدعاً. ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه.

وأما الواجب على الفرد في ذلك فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، فيجب إزالة هذا البناء بقدر الإمكان.
وأما ما ذكره السائل من السكنى مع هؤلاء فالسكنى معهم لا تجوز ما دام يمكنه أن يسكن مع غيرهم ممن لم يعمل مثل عملهم؛ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
وأما الذبح والنذر للولي فهو شرك أكبر؛ لأن كلاً منهما عبادة لله وحده، وحق من حقوقه التي اختص بها جل وعلا فلا يجوز صرفها لغيره، قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}، وقال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، ولما نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة سأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: فأوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم"، فهذه الأدلة تدل على أن الذبح والنذر لله تعالى عبادة ولغيره شرك.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.



مجموع فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية - المجلد الحادي عشر(العقيدة)