رؤية الهلال في دولة إسلامية دون أخرى

السؤال: هل إذا رأى أهل البلد الهلال، وثبتت عندهم الرؤية يلزم البلد المجاور لهم أو البلاد الإسلامية كلها أن يصوموا أو يفطروا برؤيتهم؟ أم أن لكل أهل بلد رؤية خاصة بهم؟ أفتونا مأجورين.

الإجابة

الإجابة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، أي: من شهد استهلال الشهر، وهي رؤية الهلال فليصم.

كما قال صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين" (متفق عليه من حديث أبي هريرة)، وقال صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غُم عليكم فأتموا ثلاثين، فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا" (رواه أحمد والنسائي عن رجال من الصحابة).

ومعنى قوله: "وانسكوا لها": أي تقربوا إلى الله تعالى بالصوم في رمضان، والإفطار في أول شوال وبالأضحية وأعمال الحج في وقتها -الفتح الرباني (9/264)، وانظر التيسير شرح الجامع الصغير للمناوي (2/96)-.

فبرؤية الهلال يجب على المسلمين صوم رمضان، وبرؤيته يجب عليهم الإفطار، وكذا إثبات شهر ذي الحجة.

. ويستفاد من الحديثين: أنه إذا رؤي الهلال ببلدة لزم جميع بلاد المسلمين الصوم، وهو مذهب الأئمة مالك وأبي حنيفة وأحمد والليث بن سعد، وحكاه ابن المنذر عن أكثر الفقهاء.
وقال ابن قدامة في المغني (4/ 328): وإذا رأى الهلال أهل بلد، لزم جميع البلاد الصوم. وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي.

وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة، لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة، لزم أهلها الصوم برؤية الهلال في أحدهما، وإن كان بينهما بعد، كالعراق والحجاز والشام، فلكل أهل بلد رؤيتهم.

وروي عن عكرمة أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم، وهو مذهب القاسم، وسالم، وإسحاق، لما روى كريب، قال: قدمت الشام، واستهلَّ عليَّ هلال رمضان، وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: لكن رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: ألا تكتفي برؤية معاويه وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم).

قال ابن قدامة: ولنا قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما قال له: آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "نعم"، وقوله للآخر لما قال له: ماذا فرض الله عليَّ من الصوم؟ قال: "شهر رمضان" (متفق عليه).
وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان، وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان، بشهادة الثقات، فوجب صومه على جميع المسلمين، ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين، ووقوع الطلاق والعتاق، ووجوب النذور، وغير ذلك من الأحكام، فيجب صيامه بالنص والإجماع، ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال، فيجب الصوم، كما لو تقاربت البلدان.

فأما حديث كريب فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده، ونحن نقول به، وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هو في الحديث. فإن قيل: فقد قلتم إن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً، ولم يروا الهلال، أفطروا في أحد الوجهين، قلنا: الجواب عن هذا من وجهين، أحدهما: أننا إنما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادته، فيكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته، وههنا لم يصوموا بقوله، فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه. الثاني: أن الحديث دل على صحة الوجه الآخر. انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة -كما في الفتح الرباني (9/271)- معقباً على حديث كريب عن ابن عباس: ويمكن أنه أراد بذلك هذا الحديث العام يعني قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه"، لا حديثاً خاصاً بهذه المسألة، وهو الأقرب عندي. انتهى.

وقال في فتوى له -كما في مجموع الفتاوى (25/105)- بعد أن حكى الاختلاف: فالصواب في هذا -والله أعلم- ما دل عليه قوله: "صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون"، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة، قريب أو بعيد، وجب الصوم.
وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب، فعليهم إمساك ما بقي، سواء كان من إقليم أو إقليمين.
والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد، فأما إذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس، فالمستقبل يجب صومه بكل حال، لكن اليوم الماضي: هل يجب قضاؤه؟ فإنه قد يبلغهم في أثناء الشهر أنه رؤي بإقليم، ولم ير قريبا منهم، الأشبه أنه إذا رؤي بمكان قريب، وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول فهو كما لو رؤي في بلدهم ولم يبلغهم.
إلى أن قال: فالضابط: إن مدار هذا الأمر على البلوغ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته"، فمن بلغه أنه رؤي، ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً.
وقال (ص 111): فتلخص: أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدي بتلك الرؤية الصوم، أو الفطر، أو النسك، وجب اعتبار ذلك بلا شك، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك.
ومن حدَّد ذلك بمسافة قصر أو إقليم، فقوله مخالف للعقل والشرع.
ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء، وهذا مما لا يقضي كالعيد المفعول والنسك، فهذا لا تأثير له، وعليه الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر.
وأما إذا بلغه في أثناء المدة: فهل يؤثر في وجوب القضاء؟ وفي بناء الفطر عليه، وكذلك في بقية الأحكام: من حلول الدين، ومدة الإيلاء وانقضاء العدة، ونحو ذلك، والقضاء، يظهر لي أنه يجب، وفي بناء الفطر عليه نظر.
فهذا متوسط في المسألة، وما من قول سواه إلا وله لوازم شنيعة، لاسيما من قال بالتعدد، فإنه يلزمه في المناسك، ما يعلم به خلاف دين الإسلام، إذا رأى بعض الوفود أو كلهم الهلال، وقدموا مكة، ولم يكن رؤي قريبا، ولما ذكرناه من فساده صار متنوعاً.
والذي ذكرناه يحصل به الاجتماع الشرعي، كل قوم على ما أمكنهم الاجتماع عليه، وإذا خالفهم من لم يشعروا بمخالفته لافراده من الشعور بما ليس عندهم لم يضروا هذا، وإنما الشأن من الشعور بالفرقة والخلاف.

وتحقيق ذلك العلم بالأهلة، فقال: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى في نيل الأوطار: (4/268): واعلم أن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس، والمشار إليه بقوله هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله: فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين. والأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"، وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الافراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على اللزوم، لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم، ولو سَلِم توجُّه الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر، لكان عدم اللزوم مقيداً بدليل العقل، وهو أن يكون بين القطرين من البعد، ما يجوز معه اختلاف المطالع، وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد، وليس بحجة، ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل، فلا يشك عالم أن الأدلة قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية، والرؤية من جملتها، وسواء كان بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم لا، فلا يقبل التخصيص إلا بدليل، ولو سلم صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص فينبغي أن يقتصر فيه على محل النص، إن كان النص معلوماً، أو على المفهوم منه إن لم يكن معلوما، لوروده على خلاف القياس.
ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بمعنى لفظه حتى ننظر في عمومه وخصوصه، إنما جاء بصيغة مجملة، أشار بها إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على تسليم أن ذلك المراد. ولم نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصاً لذلك العموم.

فينبغي الاقتصار على المفهوم من ذلك الوارد على خلاف القياس وعدم الإلحاق به، فلا يجب على أهل المدينة العمل برؤية أهل الشام دون غيرهم، ويمكن أن يكون في ذلك حكمة لا نعقلها، ولو سلم صحة الإلحاق وتخصيص العموم به، فغايته أن يكون في المحلات التي بينها من البعد ما بين المدينة والشام أو أكثر، وأما في أقل من ذلك فلا، وهذا ظاهر. فينبغي أن ينظر ما دليل من ذهب إلى اعتبار البريد أو الناحية أو البلد، في المنع من العمل بالرؤية.

(والذي ينبغي اعتماده) هو ما ذهب إليه المالكية جماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه، أنه: إذا رآه أهل بلد، لزم أهل البلاد كلها، ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول خلاف الإجماع، قال: لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعي الرؤية فيما بَعُد من البلدان كخراسان والأندلس، وذلك لأن الإجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة.أ.ه. يريد بالجماعة (أبا حنيفة ومالكا وأحمد بن حنبل) رحمهم الله.

. فهذا القول هو الصواب في المسألة، كما يتبين من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وما ذكره شيخ الإسلام والشوكاني وغيرهما فيه مقنع لمن أراد الحق. وهو اختيار صديق حسن خان في الروضة الندية (1/533-534).

لكن قال العلامة الألباني رحمه الله في تمام المنة (ص 398): وهذا أمر متيسر اليوم للغاية كما هو معلوم، ولكنه يتطلب شيئاً من اهتمام الدول حتى تجعله حقيقة واقعية إن شاء الله تبارك وتعالى. وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك، فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه، فيصوم بعضهم معها، وبعضهم مع غيرها، تقدمت في صيامها أو تأخرت، لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين والله المستعان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ حفظه الله.