جواب أحمد مما نقل عنه في الرد على طوائف المرجئة

السؤال: جواب أحمد مما نقل عنه في الرد على طوائف المرجئة

الإجابة

الإجابة: وجواب أحمد‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ أحسن الله إلينا وإليك في الأمور كلها، وسلمنا وإياك من كل شر برحمته، أتاني كتابك تذكرما تذكر من احتجاج من احتج من المرجئة‏.‏

واعلم رحمك الله أن الخصومة في الدين ليست من طريق أهل السنة، وأن تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معنى ما أراد الله منه، أو أثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف ذلك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أوعن أصحابه، فهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدوا تنزيله، وما قصه الله له في القرآن، وماعني به، وما أراد به أخاص هو أم عام، فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، فهذا تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة ويكون حكمها حكماً عاماً، ويكون ظاهرها على العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر وما أريد بذلك، فقد تكون الآية خاصة، أي معناها مثل قوله تعالى‏:‏‏{‏‏يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏11‏]‏ وظاهرها على العموم، أي من وقع عليه اسم ‏[‏ولد‏]‏ فله ما فرض الله، فجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرث مسلم كافراً‏.

‏‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالثبت إلا أنه عن أصحابه أنهم لم يورثوا قاتلاً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن الكتاب أن الآية إنما قصدت للمسلم لا للكافر، ومن حملها على ظاهرها لزمه أن يورث من وقع عليه اسم الولد كافراً كان أو قاتلا، وكذلك أحكام الوارث من الأبوين وغير ذلك مع آي كثير يطول بها الكتاب، وإنما استعملت الأمة السنة من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، إلا من دفع ذلك من أهل البدع والخوارج وما يشبههم، فقد رأيت إلى ما خرجوا‏.

‏‏ قلت‏:‏ لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة، كالشافعي وأحمد، وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم سواء، لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقاً، كما في قوله تعالى‏:‏‏{‏‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏103‏]‏، فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم، ليست مما لا يفهم المراد به، بل نفس ما دلت عليه لا يكفي وحده في العمل فإن المأمور به صدقة تكون مطهرة مزكية لهم، وهذا إنما يعرف ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال أحمد يحذر المتكلم في الفقه هذين الأصلين‏:‏ المجمل والقياس‏.

‏‏ وقال‏:‏ أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، يريد بذلك ألا يحكم بما يدل عليه العام والمطلق قبل النظر فيما يخصه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص هل تدفعه، فإن أكثر خطأ الناس تمسكهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس، فالأمور الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثاً يطمئن القلب إليه، وإلا أخطأ من لم يفعل ذلك‏.

‏‏ وهذا هو الواقع في المتمسكين بالظواهر والأقيسة؛ ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طريق أهل البدع، وله في ذلك مصنف كبير‏.‏

وكذلك التمسك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار طريق أهل البدع؛ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولاً فاسداً، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقوله تعالى‏:‏‏{‏‏يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏11‏]‏ سماه عاماً وهو مطلق في الأحوال، يعمها على طريق البدل، كما يعم قوله‏:‏‏{‏‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏‏ ‏[‏المجادلة‏:‏3‏]‏ جميع الرقاب،لا يعمها كما يعم لفظ الولد للأولاد، ومن أخذ بهذا لم يأخذ بما دل عليه ظاهر لفظ القرآن، بل أخذ بما ظهر له مما سكت عنه القرآن، فكان الظهور لسكوت القرآن عنه، لا لدلالة القرآن على أنه ظاهر، فكانوا متمسكين بظاهر من القول لا بظاهر القول،وعمدتهم عدم العلم بالنصوص التي فيها علم بما قيد، وإلا فكل ما بينه القرآن وأظهره فهو حق، بخلاف ما يظهر للإنسان لمعنى آخر غير نفس القرآن يسمى ظاهر القرآن‏.

‏‏ كاستدلالات أهل البدع من المرجئة والجهمية والخوارج والشيعة‏.

‏‏ قال أحمد‏:‏ وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة‏؟‏ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار‏؟‏ وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف‏؟‏ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فلقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، وإن جحد وقال‏:‏ لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولاً عظيماً، ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء‏.‏

قلت‏:‏ أحمد وأبو ثور وغيرهما من الأئمة كانوا قد عرفوا أصل قول المرجئة،وهو‏:‏ أن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه، فلا يكون إلا شيئاً واحداً فلا يكون ذا عدد؛ اثنين أو ثلاثة، فإنه إذا كان له عدد، أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه، بل لا يكون إلا شيئاً واحداً، ولهذا قالت الجهمية‏:‏ إنه شيء واحد في القلب‏.

‏‏ وقالت الكرامية‏:‏ إنه شيء واحد على اللسان، كل ذلك فراراً من تبعض الإيمان وتعدده، فلهذا صاروا يناظرونهم بما يدل على أنه ليس شيئاً واحداً، كما قلتم، فأبو ثور احتج بما اجتمع عليه الفقهاء المرجئة، من أنه تصديق وعمل، ولم يكن بلغه قول متكلميهم وجهميتهم، أو لم يعد خلافهم خلافاً، وأحمد ذكر أنه لابد من المعرفة والتصديق مع الإقرار، وقال‏:‏ إن من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام؛ ولهذا لم يذهب إليه أحد قبل الكرامية، مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق، ولكن تقول‏:‏ لا يدخل في اسم الإيمان حذراً من تبعضه وتعدده؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل ذلك يقتضي أن يجتمع في القلب إيمان وكبر، واعتقدوا الإجماع على نفي ذلك، كما ذكر هذا الإجماع الأشعري وغيره.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.