سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ ...

السؤال: سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}‏

الإجابة

الإجابة: قد كتبْتُ بعض ما يتعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء وابن عباس‏.‏

وقال مقاتل و السدي والكلبي‏:‏ هو جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت‏.

‏‏ ‏{‏‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ‏} ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ يعني‏:‏ الخلق كلهم قيام على أرجلهم ‏{‏يَنظُرُونَ‏}‏ ما يقال لهم، وما يؤمرون به‏.

‏‏ هذا كلام الواحدي في كتاب ‏[‏الوسيط‏]‏ بَينُوا لنا حقيقة الصُّعُوق، هل يطلق على الموت في حق المذكورين‏؟‏ وحقيقة الاستثناء‏؟‏ فأجاب‏:‏

الحمد لله الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، وحتى عِزْرائِيل ملك الموت‏.‏

وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.

‏‏ والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك، وقدرة الله عليه، وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة أتباع أرسطو وأمثالهم، ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب هذا العالم‏.‏

والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26 - 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}‏‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏‏.

‏‏ والله سبحانه وتعالى قادر على أن يميتهم ثم يحييهم، كما هو قادرعلي إماتة البشر والجن، ثم إحيائهم، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}‏‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.

‏‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن غير واحد من أصحابه أنه قال "إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة غشي‏"‏‏ وفي رواية "إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا‏"‏‏ وفي رواية "سمعت الملائكة كجر السلسلة على صفوان، فيصعقون،فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا‏:‏ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏الحق،فينادون‏:‏الحق، الحق"‏‏‏.‏

فقد أخبر في هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يصعقون صُعُوق الغشي، فإذا جاز عليهم صُعُوق الغشي جاز عليهم صعوق الموت، وهؤلاء المتفلسفة لا يجَوزون لا هذا ولا هذا، وصُعُوق الغشي هو مثل صعوق موسي عليه السلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.

‏‏ والقرآن قد أخبر بثلاث نَفْخات‏:‏

نفخة الفَزَع‏:‏ ذكرها في سورة النمل في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏} ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏

ونفخة الصعق والقيام‏:‏ ذكرهما في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه‏.‏

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال"إن الناس يصْعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسي آخذًا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله‏؟"‏‏، وهذه الصعقة قد قيل‏:‏ إنها رابعة، وقيل‏:‏ إنها من المذكورات في القرآن، وبكل حال النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسي هل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا‏؟‏

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجزم بكل من استثناه الله لم يمكنا أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بقرب الساعة، وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر‏.‏

وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليم

___________________

المجلد السادس عشر

مجموع الفتاوي لابن تيمية