الإجابة:
الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما
بعد:
فإنَّ العزاءَ مشروعٌ في الجُمْلَة، سواءٌ أكان المُعزِّي قريباً
للميِّت أو غريباً عنه.
أمَّا الجلوسُ لتلقِّي العزاءِ في المنزل أو غيره؛ فإنَّ العلماءَ
اختلفوا في حُكْمِه، فكَرِهَهُ الحنابلةُ والشَّافعيَّة، وأَبَاحَهُ
المالكيَّةُ، وهو على خلاف الأوْلَى عند الحنفيَّة.
إلا أنَّ ما اعتادهُ النَّاسُ في زماننا هذا من الاجتماع، وإعدادِ
الطَّعام والشَّراب للمعزِّين، وتقديمِه لهم كما يُفْعَلُ في
الأعْرَاس والمناسبات؛ فإنَّه من البِدَع المُحْدَثَة، وقد صرَّح بذلك
غيرُ واحدٍ من الأئمَّة السَّابقين.
قال الشِّيرازيُّ - الشَّافعيُّ - في "المُهذَّب": "ويُكْرَهُ الجلوسُ
للتَّعْزِيَة؛ لأنَّ ذلك مُحْدَثٌ، والمُحْدَثُ بِدْعَةٌ" انتهى.
وقال ابنُ الهُمَام - الحنفيُّ - في "فَتْحُ القدير": "ويُكْرَهُ
اتِّخاذُ الضِّيافة من الطَّعام من أهل الميِّت؛ لأنَّه شُرِعَ في
السُّرور لا في الشُّرور، وهي بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ" انتهى.
وفي "الفتاوى الهندية": "ويُكْرَهُ الجلوسُ على باب الدَّار، وما
يُصْنَعُ في بلاد العَجَم من فَرْشِ البُسُط، والقيامُ على قوارع
الطُّرُق من أقبح القبائح، كذا في الظَّهيريَّة".
وقال البُهُوتِي - الحنبليُّ - في "كشَّاف القِناع" عن حكم هذا
الاجتماع: "نَقَلَ المَرُّوذِيُّ عن أحمد: هو من أفعال الجاهليَّة،
وأَنْكَرَ شديداً.. ويكرهُ الأكلُ من طعامهم، قالهُ في "النَّظْم"،
وإن كان من التَّركة وفي الوَرَثَةِ محجورٌ عليه أو مَنْ لم يأذنْ
حَرُمَ فعلُهُ، وحَرُمَ الأكلُ منه؛ لأنَّه تصرُّفٌ في مال المحجور
عليه، أو مال الغَيْر بغير إذنه" انتهى.
والحاصلُ:
أنَّ التجمُّعَ أو عملَ المآتم أو الولائم بمناسبة الوفاة لا يجوزُ؛
لأنَّه من البِدَع والمُحْدَثَات التي أَحْدَثَهَا النَّاسُ بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحَابِه والسَّلَفِ الصَّالح، وهو مِنَ
النِّياحة وتعظيم المُصيبة.
ففي "الصَّحيحَيْن" وغيرهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
"مَنْ أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منهُ؛
فهو رَدٌّ"، وفي روايةٍ: "مَنْ
عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرُنا؛ فهو رَدٌّ".
وعن جَرِير بن عبدالله البَجَلِي رضيَ اللهُ عنه قال: "كنَّا نَعُدُّ
الاجتماعَ إلى أهل الميِّت وصُنْعَةَ الطَّعامِ من النِّياحة" [رواهُ
أحمدُ وابنُ ماجه، وصحَّحهُ النَّوويُّ والشَّوْكانيُّ والألبانيُّ
رحمهمُ اللهُ].
وفي "مصنَّف ابن أبي شَيْبَة": "أنَّ جَرِيراً قَدِمَ على عمرَ، فقال:
هل يُناحُ قِبَلَكُم على الميِّت؟ قال: لا، قال: فهل تَجتمعُ
النِّساءَ عندكم، ويُطْعَمُ الطَّعامَ؟ قال: نعم، فقال: تلك
النِّياحةُ".
هذا؛ والأحاديث ونصوصُ العلماء لم تفرِّقْ في المَنْع من الاجتماع بين
قريبٍ وغيرِهِ، ولكنْ إذا كان في بقاء بعض الأقارب عند أهل الميِّت
فائدةٌ محقَّقةٌ، كمُوَاساتِهم، وشَدِّ أَزْرِهم، وحَثِّهم على
الصَّبر، وتَسْلِيَتِهم، وما شابه ذلك؛ فحَسَنٌ، ولكنْ على وجهٍ
ضيِّقٍ، ولا تُفْتَحُ الأبوابَ.
وأما صُنْعُ الطَّعامِ؛ فإن كان أهلُ الميِّت هم الذين يصنعون
الطَّعام لغيرهم؛ فهذا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ، وحُكْمُهُ دائرٌ بين
التَّحريم والكَرَاهَة الشَّديدة؛ لحديث جَرِيرٍ السَّابق.
وأمَّا إن كان من بعض الأقارب أو الجيران لأهل الميِّت فقط، فهو
سُنَّةٌ؛ لما رواهُ أبو داودَ وغيرُهُ عن عبد الله بن جعفر قال: قال
رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلم: "اصنعوا
لآلِ جعفرٍ طعاماً؛ فإنَّه قد أتاهم أمرٌ شَغَلَهُمْ"، قال في
"عَوْنُ المعبود": "فيه مشروعيَّةُ القيام بمُؤنَة أهل البيت مما
يحتاجونَ إليه من الطَّعام؛ لاشتغالهم عن أنفسهم بما دَهَمَهُم من
المصيبة عن طبخ الطَّعام لأنفُسِهم".
وذهبَ أكثرُ أهل العلم إلى استحباب صُنْع الطَّعام لهم ثلاثةَ أيَّام.
قال البُهُوتِيُّ - الحنبليُّ - في "كشَّاف القِناع": "ويُسَنُّ أن
يَصْنَعَ لأهل الميِّت طعاماً يُبْعَثُ به إليهم ثلاثاً - أي : ثلاثة
أيام - لقوله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا
لآل جعفرٍ طعاماً؛ فقد أتاهُمْ ما يَشْغَلُهُم" [رواهُ
الشَّافعيُّ وأحمد والترمذي وحسَّنَهُ].
قال الزُّبَيْرُ: "فعَمِدَتْ سلمى مولاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
إلى شَعيرٍ فطَحَنَتْهُ، وأَدَّمَتْهُ بزيتٍ جُعِلَ عليه، وبَعَثَتْ
به إليْهِم".
ويُروى عن عبد الله بن أبي بكر أنَّه قال: "فما زالت السَّنةُ فينا
حتى تركها مَنْ تركها"!
وسواءٌ أكان الميت حاضراً أو غائباً، وأتاهُم نَعْيُهُ، وينوي فِعْلَ
ذلك لأهل الميِّت، لا لِمَنْ يجتمعُ عندهم، فيُكْرَهُ؛ لأنَّه معونةٌ
على مكروهٍ، وهو اجتماعُ النَّاس عند أهل الميِّت، نَقَلَ
المَرُّوذِيُّ عن أحمد: "هوَ من أفعال الجاهليَّة، وأَنْكَرَ شديداً"
انتهى.
قال النَّوَوِيُّ في "المجموع": "اتَّفَقَتْ نصوصُ الشَّافعيِّ في
"الأُمِّ" و"المختصَر"، والأصحابُ على أنَّه يُسْتَحَبُّ لأقرباء
الميِّت وجيرانه أن يعْمَلُوا طعاماً لأهل الميِّت، ويكونُ بحيث
يُشْبِعَهُم في يومِهِمْ وليلَتِهِمْ، قال الشَّافعيُّ في "المختصَر":
"وأُحبُّ لقَرَابَة الميِّت وجيرانه أن يعْمَلُوا لأهل الميِّت في
يومِهِمْ وليلَتِهِمْ طعاماً يُشْبِعُهُمْ؛ فإنَّه سُنَّةٌ، وفِعْلُ
أهل الخير".
أما حديثُ عائشةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّها كانت إذا
ماتَ الميِّتُ من أهلها فاجتمع لذلك النِّساء، ثم تفرَّقْنَ، إلا
أهلَها وخاصَّتَها، أمرَتْ ببُرْمَة من تَلْبِينةٍ فطُبِخَتْ، ثم
صُنِعَ ثريدٌ فصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عليها، ثم قالتْ: كُلْنَ منها؛
فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لفؤاد المريض، تذهبُ
ببعضِ الحُزْن"، فالظَّاهرُ من الحديث أنَّهُ كانت تصنعُها
لأهل الميِّت خاصَّةً، وليس للمُعزِّين.
وأيضاً: فيه دليلٌ على مشروعيَّة صُنْع أهل البيت طعاماً لأنْفُسِهم
وخاصَّتِهِمْ، إن لم يصنعْ لهم جيرانُهُم، فلا خلاص لهم إلا أن يصنعوا
لأنفُسِهِمْ.
وفيه: استحبابُ عَمَلِ التَّلْبِينَة لخاصيَّةٍ فيها، وهي كونها
"تذهبُ ببعضِ الحُزْن".
ثمَّ إنَّ الحديثَ حكايةُ حالٍ لا عمومَ لها - كما هو معلومٌ في
الأصول - ويدخُلُهَا من الاحتمال ما لا يدخلُ القولَ؛ فيُحْتَمَلُ أن
يكونَ النِّسْوَةُ قد اجتمعْنَ من أجل إعانتها فيما يتعلَّقُ بأمر
المتوفَّى؛ من تجهيزه وتغسيله وتكفينه، وإعدادِ ما يُحتاجُ إليه من
الكافور والسِّدْر، أو استدعاءِ مَنْ يُغَسِّلُهُ إذا كان رجلًا، أو
تغسيله إن كان المتوفَّى امرأةً.. ونحو ذلك، لا أنَّهنَّ اجتمعْنَ
للتَّعزِية، ويُحْتَمَلُ أنه يُسْتَثْنَي الأهلُ والخاصَّةُ.
أما ما يقصِدُه الشَّيخُ بالبِدَع:
فهو ما أَحْدَثَهُ النَّاسُ من التَّجَمُّع للعزاء، أو عمل المآتم أو
الولائم بمناسبة الوفاة، ومنها الجلوسُ لتلقِّي العزاءَ ثلاثةَ
أيَّامٍ، والاجتماعُ لقراءة القرآن، أو تحديدُ هيئةٍ أو أوقاتٍ
معيَّنةٍ لقراءة القرآن، أو الإسرافُ في المآدب، فضلًا عن النِّياحة،
وشَقِّ الجيوب، ولَطْمِ الخدود، كذلك السَّخَطُ والاعتراضُ على
القَدَر، والله أعلم.
نقلاً عن موقع
الآلوكة.