الكلام على الطريقة المثلى لطلب العلم

السؤال: ما هي الطريقة المثلى التي يتبعها طالب الحديث والفقه والتفسير؟

الإجابة

الإجابة: إن طريقة طالب العلم تبدأ أولاً بالإخلاص لله تعالى، وطلب العلم ابتغاء وجهه الكريم، فمن طلب علماً مما يُبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا لينال به عَرَضَاً من الدنيا لم يَرِحْ رائحة الجنة، فلابد أن يحرص على أن يكون طلبه خالصاً لوجه الله الكريم، وأن يعلم أنه من أقرب القربات التي يتقرب بها إلى الله، وأنه من الخير الذي أعرض الناس عنه.

ولم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد إلا منه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، ثم عليه كذلك أن يحقق شروط طالب العلم، وقد ذكرنا من قبل في الدروس التي تتعلق بطلب العلم هذه الشروط وهي سبعة، نظمها الهلالي بقوله:
له تغرَّب وتواضع واترع *** وجُع وهُن واعصِ هواك واتَّبع
وقد سبق شرحها والاستدلال لها في الدرس المختص بطلب العلم.

وكذلك لا بد أن يبحث عن أركان الطلب، ومنها الشيخ الناصح الذي يعلمه وينبهه، فهو من أركان العلم، لا يمكن أن يكون الإنسان عالماً بقراءة الكتب دون أن يعتمد على أستاذ، وقد قال أبو حيان رحمه الله:
يظن الغمر أن الكتب تهدي *** أخا فهم لإدراك العلوم وما يدري الجهول بأن فيها *** غوامض حيَّرت ذهن الفهيم إذا رُمت العلوم بغير شيخ *** ضللت عن الصراط المستقيم وتلتبس العلوم عليك حتى *** تصيرَ أضلَّ من تَوْمَا الحكيم
فلابد من الاعتماد على شيخ قد سبق الإنسان في الدراسة، ولو كان الإنسان أعلم منه في علوم أخرى، فالعلم جميعاً لا يُحرزه أحد كما قال الشافعي رحمه الله: "إن العلم ثلاثة أشبار، فالشبر الأول إذا ناله الإنسان تكبَّر وظنَّ أنه قد أحرز العلم كله، فإذا دخل في الشبر الثاني عرف أنه لم يُحرز شيئاً فتواضع، والشبر الثالث لا يصل إليه أحد فهو متعذر"، وهذا في زمان الشافعي فكيف بزماننا، فلهذا لا بد أن يتواضع الإنسان لمن يطلب العلم منه.

وكذلك مما يعينه على الطلب وجود الطالب المثابر الذي يستفيد هو من شَرَهِهِ في العلم، ومن جِدِّه وتشميره، فيشغله عن التشاغل بأمور الدنيا وعما هو منافٍ للطلب، ويذاكره فالتِّنَاوَةُ وهي عدم المذاكرة مضرة بطالب العلم، كما قال أحد علماء هذه البلاد وهو العلامة محمد فال بن محمذ بن أحمد بن العاقل رحمهم الله، يقول:
ما كالشتا وجمادى والخريف أتى *** لكم جواباً كما أتى جواب متى وما كوقت وحين لا يجاب به *** وما كخمس لييلات لكم ثبتاً أما متى بما كالأربعاء أتى *** جوابها وبشهر إن أضيف متى وليس كل فتى يدري حقيقة ذا *** إن التناوة تطفي فهم كل فتى
فالمذاكرة لا بد منها للطالب، وهي تدريبه على الشرح والتدريس، فكثير من الطلبة سمعوا ورووا الكثير وحفظوا كثيراً من المتون لكنهم لم يضعوا الثقة في أنفسهم حتى يعلموا شيئاً مما تعلموا، فلذلك يرتعش أحدهم إذا وقف على المنبر يلقي خُطبة أو يتكلم كلاماً لأنه لم يتدرب، وهذا التدرب لابد منه، وهو شرط للوصول إلى كرسي العلم فلا يمكن أن يكون الإنسان طالباً للعلم جاداً إلا إذا زكى ما عنده وعلَّمه وتعود على إلقائه كما يتعود على أخذه، فطلب العلم ليس فقط بطلب أخذه بل هو بطلب أخذه وبطلب إعطائه أيضاً وتلقيه والتعود على هيئة ذلك كله وسلوك أهل العلم فيه، ولذلك قال مالك رحمه الله في وصفه لأمه العالية رحمها الله -وهي مولاة لآل طلحة بن عبيد الله- قال: "اشترت لي ثياباً جدداً بيضاً، وعممتني بعمامة، وجعلت في جيبي صرة من دراهم، وقالت: اذهب إلى حلقة ربيعة فتعلم من أدبه قبل أن تتعلم من علمه"، وكانت امرأة عاقلة ناصحة، فأرشدت ابنها مالك بن أنس أن يذهب إلى ربيعة ليتعلم من أدبه أي من هيئته في التعليم وأدائه للعلم وتواضعه وسلوكه وهيبته قبل أن يتعلم من علمه وهذا من ذكائها، وقد أخذ منه أحد الأذكياء النبهاء في هذه البلاد أيضاً وهو الشيباني رحمه الله عندما أتى بولده الشيخ محمد سعيد إلى العلامة حامد بن محمذ بن محنض بابه فقال: "هذا الولد لا أريد أن تعلمه حرفاً واحداً من العلم، بل أريد فقط أن يتعلم هديك وسلوكك، فلا تقوم إلا وهو معك ولا تجلس إلا وهو معك ولا تنام إلا وهو معك"، فتعلم بذلك الكثير من هدي العلماء وأخلاقهم وآدابهم وسمع الكثير من العلم، فهذا أسلوب للتعليم مُهمَل مُغْفَل، وينبغي أن يحيى من جديد، وأن يروي الناس عن الناس هديهم وسلوكهم، وأهل الحديث يقولون: "ذلك نسبٌ يروى"، كما يقولون: "ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه، وربى ابن مسعود علقمة فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه، وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه، وربى إبراهيم سليمان بن مهران الأعمش فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه، وربى الأعمش منصور بن المعتمر فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه، وربى منصور بن المعتمر سفيان الثوري فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه، وربى سفيان الثوري وكيع بن الجراح فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه، وربى وكيع بن الجراح أحمد بن حنبل فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه، وربى أحمد بن حنبل أبا داود سليمان بن الأشعث فكان يشبهه في هديه ودله وسلوكه"، فهذا نسب يروى في هدي العلماء وآدابهم وهيئة لباسهم ومشيهم وكلامهم وتعليمهم وتعلمهم وهو مما يحتاج إليه طالب العلم.

أما ما ذكر من هذه الفنون الثلاثة وهي علم الحديث وعلم الفقه وعلم التفسير: فهي لا شك من أعلى العلوم وأغلاها، وكثيرٌ من الناس ينقطع في الطلب دون الوصول إليها، إذا درس شيئاً منها كان من الفقه المجرد أي من بدايات الفقه، ومن المعلوم أن الفقه سلالة علمية تجمع عدداً كبيراً من العلوم، فمنها الفقه المذهبي الذي يبدأ به الإنسان الذي يقتصر عليه كثير من الناس، كثير من الناس إذا درس مختصراً واحداً في مذهب واحد يظن أنه درس الفقه، وهذا غلط وسوء فهم في التصور، فهذا فقط بداية الطريق في فن واحد من ثلاثة عشر علماً هي علوم الفقه، علمٌ واحد فقط من ثلاثة عشر علماً، ولذلك فإن العلامة عبد الله بن محمد بن محمد سالم المجلسي رحمهم الله لما سافر في طريقه إلى الحج نزل على فقيه من فقهاء فاس، فسُئل عن مسألة فأجاب فيها عبد الله بمختصرِ خليل، فأمسك الفقيه بيده فقال: يا عبد الله أنت لم تتعلم إلا مختصراً واحداً من مذهب واحد، قال عبد الله: فأدركت من تلك الكلمة ما لم أدركه طول دراستي، فتعلم من ذلك من هذا الشيخ أنه لم يدرس إلا مختصراً واحداً من مذهب واحد، فلذلك يحتاج الدارس للفقه لهذه العلوم كلها، وهي علم الفقه المذهبي، ثم علم الفقه المقارن، ثم علم الأدلة -أدلة الأحكام-، ثم علم تاريخ التشريع، ثم علم طبقات الفقهاء، ثم علم الفرائض، ثم علم النوازل، ثم علم القضاء، ثم علم أصول الفقه، ثم علم تخريج الفروع على الأصول، ثم علم القواعد الفقهية، ثم علم الأشباه والنظائر والفروق، ثم بعد ذلك أدب الخلاف والبحث والمناظرة في الفقه، فهذه ثلاثة عشر علماً هي الفقه، ولا يكون الإنسان فقيهاً ما لم يكن مشاركاً في هذه العلوم الثلاثة عشر كلها، ما دون ذلك قد يكون دارساً لمختصر في مذهب من المذاهب أو متعلماً حتى لمذهبين أو ثلاثة أو أربعة لكن لا يكون فقيها بمعنى الكلمة، لابد أن يكون مشاركاً في هذه العلوم الثلاثة عشر كلهاً حتى يكون فقيهاً.

وعلم التفسير كذلك من العلوم المتسعة، فتعلمون أن التفسير يشمل بيان معاني القرآن، ومعاني القرآن محيطة بالعلم كله، وقد ذكر أهل العلم أن العلم جميعاً مظروف في كتاب الله، وكتاب الله جميعاً مظروف في الفاتحة، فعلوم القرآن جميعاً ترجع إلى ما ذكر في فاتحة الكتاب، ويحتاج الإنسان في دراسة التفسير إلى معرفة مدارسه، مدرسة التفسير بالأثر ومدرسة التفسير بالرأي، وإلى بيان طبقات المفسرين ودرجاتهم، وإلى ما يحتاج إليه من علم الأداء -أداء القرآن وتجويده وعلم القراءات واختلافها وتوجيهها النحوي-، وإلى علم علوم القرآن الذي يشمل المكي والمدني والشتوي والصيفي والليلي والنهاري والناسخ والمنسوخ وغير ذلك، ثم إلى علم آيات الأحكام وما يتعلق بها وهي علم مفرد من علوم التفسير ألف فيه كثير من الكتب المستقلة، كأحكام القرآن الذي وضعه البيهقي رواية عن الشافعي رحمه الله، وكتاب تفسير آيات الأحكام للجصاص الحنفي، وتفسير آيات الأحكام لأبي بكر بن العربي المالكي، وتفسير آيات الأحكام لابن الفرس المالكي، وتفسير آيات الأحكام للكِيا الهراسي الشافعي، وغير ذلك من الكتب المختصة بتفسير آيات الأحكام وحدها، ومجملها خمسمائة آية، وقد لخص أكثر كلام أهل العلم فيها باختصار شديد السيوطي في كتابه الإكليل في استنباطات التنزيل، أورد فيه هذه الآيات الخمسمائة وذكر ملخص أقوال أهل العلم فيها بما يستنبط منها، وهذا العلم الذي هو علم التفسير يحتاج إلى المقارنة، فالإنسان الذي يدرس التفسير من مدرسة واحدة لا بد أن يكون قاصراً في التفسير، فلذلك يحتاج الإنسان في دراسته للتفسير للمقارنة، ويحتاج كذلك للتدريب بالامحتان قبل المطالعة، ولهذا فإن العلامة أحمد ولد أحمذي رحمة الله عليهما لما أراد أن ينظم كتاب مراقي الأواه في تدبر كتاب الله اختار خمس تفاسير هي من أجود التفاسير فرجع إليها جميعاً وقارن بينها في نظمه، ونظمه مشهور متداول هنا في هذه البلاد، ونرجو أن ينتشر إن شاء الله وأن يُطبع، وقد كان الشيخ محمد علي رحمه الله يحرص على أن يدرس بعض طلابه طريقة التفسير فكان يقارن بين ثلاثين مرجعاً في التفسير، وكان يمتحننا في ذلك، فيقرأ الآية فيقول في هذه الكلمة ستة أوجه: ابحثوا عنها في كتب التفسير، فتأتي نتيجة البحث مصادفة للعدد الذي قاله، وتارة نحصل على أقل منه، وتارة نحصل على أكثر منه وذلك بحسب ما تدبره هو، فهذه التفاسير جميعاً تدرس مقارنة، ومن درس في مدرسة واحدة من مدارس التفسير لا بد أن يكون أفقه ضيقاً في كتاب الله، فلهذا يحتاج الإنسان إلى التنوع في دراسة التفسير، فإذا أخذ من مدرسة الأثر مثلاً تفسير الطبري محمد بن جرير أبو جعفر وهو شيخ المفسرين وإمامهم وهم عالة عليه كما قال ابن تيمية وغيره فذلك كاف في تفسير العصور الأولى، فقد توفي ابن جرير سنة ثلاثمائة وعشر من الهجرة، وتفسيره مغنٍ عن تفسير معاصريه كالإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي الذي توفي سنة ثلاثمائة وسبعة وعشرين، وكالإمام أحمد بن شعيب النسائي الذي توفي سنة ثلاثمائة وثلاث من الهجرة، وكابن منده وابن ماجة، وتفسير أحمد فهذه التفاسير يجد الإنسان لبابها في تفسير ابن جرير الطبري بالروايات والأسانيد.

وإذا زاد عليه في مدرسة التفسير بالأثر فليدرس مثلاً كتاب الدر المنثور للسيوطي فقد جمع فيه تفاسير أولئك جميعاً ملخصة مع أنه لم يذكر الأسانيد ولم يحكم على الأحاديث، فكثير من الأحاديث التي فيه تحتاج إلى تمحيص وتفحص لأن فيها كثيراً من الموضوعات والضعاف وتحتاج إلى القوة -قوة الساعد- في طلب الحديث، ليميز الإنسان بين الصحيح منها والضعيف، وكذلك تفسير ابن كثير فهو تفسير جليل وقد أتى فيه بالأسانيد حتى لو كان الحديث في الصحيح لأن الصحيحين مثلاً يتكرر فيهما الحديث بأسانيد مختلفة، فإذا ذكر هو رواية فيأتي بإسنادها لتعلم أنه ضابط لها كما هي، وابن كثير رحمه الله من أقوياء الناس في الحديث، فتفسيره جيد من هذا القبيل لو خلا من بعض الإسرائيليات القليلة وهذه هي من هنوات الكتب التي لا محيص عنها وقد سبق قريباً الاعتذار عنها، فإذا قرأت فيه مثلاً في ذكر الشجرة أنها شجرة كانت تأكل منها الملائكة فهذا من الإسرائيليات فاعذره فالمتس العذر للشيخ في مثل ذلك.

ثم في كتب الرأي لابد أن يقرأ الإنسان في كتاب الكشَّاف للزمخشري فإنه من أجاويد الكتب في التفسير بالرأي وقد ذكر مؤلفه فيه أبياته المشهورة: "فالكتب كالداء والكشاف كالشافي":
إن التصانيف في الدنيا ذوو عدد *** وليس فيها لعمري مثل كشافي
فهذا وإن كان قد يوصف بالمبالغة إلا أن فيه قدراً لا بأس به من الصواب، فهذا الكتاب أصبح أيضاً سلالة لكثير من التفاسير تابعة له، فمن الذين يدورون في فلكه من المفسرين أبو السعود والبيضاوي فكلاهما آخذ من الزمخشري في كتاب الكشاف، لكن على مطالعه أن يحذر من أقاويل الفلاسفة والمعتزلة فقد أخفاها في كتابه، وقال فيها ابن المنير: "إن أقوال المعتزلة والفلاسفة في الكشاف لا تنزع إلا بالمناقيش لصعوبة استخراجها"، ولذلك تأتي بوجه غريب جداً، مثلاً مذهب المعتزلة نفي الرؤية أن الله سبحانه وتعالى لا يُرى في الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، وقد ذكر عن الزمخشري أنه قال في تفسير قول الله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} في قصة موسى عليه السلام في سورة الأعراف، قال: لن للنفي والتأبيد، وهذا القول ليس في الكشاف في الطبعات المعروفة لدينا، لكن قد يكون في كتابه الأنموذج في النحو، وقد اشتهر نقله عنه ونقله عنه أهل البلاغة جميعاً، وقد ذكره السيوطي في عقود الجمان في البلاغة حيث قال:
وقيل للتأبيد لكن تركا *** ورده لا ابن خطيب زملكا
فهذا من الأقوال البديعة في إخفائها، فإذا كانت لن للنفي والتأبيد معناه نفي الرؤية مطلقاً في الدنيا والآخرة، وإذا نفيت عن موسى كان ذلك نفياً لها عن غيره ممن دونه، لكن هذا غير صحيح فلن للنفي فقط وليست للتأبيد، ليست لتأبيد النفي، ولذلك فإنها تغيى -أي تذكر بعدها الغاية- كما في قول الله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} فلو كانت للتأبيد لما غييت بغاية، فهذا يدل على أن لن للنفي لا للتأبيد.

كذلك لابد من الدراسة في مدرسة الفقهاء من المفسرين، وأجود ذلك كتاب القرطبي الجامع لأحكام القرآن.

ثم لابد كذلك من دراسة تفسير النحويين وأجود ذلك كتاب البحر المحيط لأبي حيان، ولدى المتأخرين مثلاً لفتات مهمة في إعراب القرآن كحاشية سليمان الجمل على تفسير الجلالين.

وكذلك لا بد من الاطلاع على أقوال أهل البلاغة في التفسير ومن أجود ذلك كتاب: "التحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور التونسي رحمه الله.

ثم لا بد كذلك من الكلام في العقائد وما يتعلق بها وأجود ذلك تفسير الشيخ محمد الأمين آب رحمة الله عليه أضواء البيان، وكذلك فإن فيه هذه العلوم الأخرى فقد عرج على كثير من مسائل الفقه بل أتى فيه بما لم يأت به أحد من المفسرين في بعض المسائل الفقهية، كمنسكه العظيم الذي أتى فيه بأحكام الحج جميعاً في جميع المذاهب وأقوالها والترجيح بينها وأدلتها وهذا ما لا تجده في أي كتاب من كتب التفسير، وكذلك المسائل الأصولية الكثيرة التي حلها الشيخ في هذا الكتاب ولم تكن من قبل إلا من المشكلات، وأوابد كثيرة من أوابد العلم أتى بها رحمه الله في كتابه.

ومثل ذلك ما يتعلق بالدعوة، فيحتاج الإنسان إلى فهم القرآن أسلوب حياة ومسيطراً على الكون وحاكماً عليه، وهذا لا يستطيعه الإنسان إلا بدراسة تفسير الدعاة الذين يفهمون الكون هذا الفهم، ومن أجود ذلك كتاب: "في ظلال القرآن" لسيد قطب رحمه الله، ومثله أيضاً كتاب: "الأساس في التفسير" لسعيد حوا رحمه الله، فهذه المجموعة إذا درسها الإنسان يكون قد ألم بمختلف مدارس التفسير ويقارن بينها.

والأصل في الدراسة أن لا يقرأ الإنسان تفسيراً كاملاً من أوله إلى آخره قبل المقارنة، بل عليه أن يدرس مقطعاً من القرآن في عدد من التفاسير، حتى يتقن ذلك المقطع ثم يتجاوزه إلى ما بعده، فهذا الذي يندرج به الإنسان في زمرة المفسرين.

أما دراسة الحديث فحدث ولا حرج وبالأخص لصعوبتها وندرة أهلها وقلة الاشتغال بها في هذا الزمان، فالشيخ الذي بين يدي من أقاربه من كان يتأسف في وقته على علم الأصول ويرى أنه قد اندرس ولم يعد موجوداً، ولم يعد أحد يشتغل به ولو عاش إلى زماننا هذا لأبدل ذلك التأسف عن علم الأصول إلى التأسف على علم الحديث، بدل أن كان هو ونظراؤه وأهل عصره يرون الحديث أمراً سهلاً وميسوراً ومتوفراً لديهم أصبح اليوم بضاعة نادرة لا يشتغل بها إلا أقل القليل من طلبة العلم، مع أن الحديث هو مرجع كل هذه العلوم، فكتب الحديث تجد فيها أبواب الفقه وأبواب التفسير وأبواب العقائد وأبواب السلوك وأبواب الفضائل والشمائل والسير والغزوات وغير ذلك ويكفيك أن ترجع إلى صحيح البخاري مثلاً ستجد فيه كل هذه العلوم ما من علم من علوم الشريعة إلا وتجده في الحديث، فكتب البخاري مرتبة على هذا الترتيب أول كتاب كتابُ بدء الوحي ثم كتاب الإيمان ثم كتاب العلم ثم كتب الطهارة ثم كتاب الصلاة وهكذا فتجدها مرتبة بهذا الترتيب حتى يأتي على فضائل القرآن وتفسير القرآن وتعبير الرؤيا وأحكام المرتدين والآداب واللباس والأشربة والرقاق ويأتي بالاعتقاد والاعتصام بالسنة فلا يترك فناً من فنون العلم إلا أتى به في كتابه، فلذلك كثير من المحدثين كانوا يسمون كتبهم بالجوامع، فالترمذي رحمه الله لما ألف كتابه سماه كتاب الجامع لجمعه لكثير من أنواع العلوم الشرعية، ولذلك قال فيه ابن منده: "من كان في بيته كتاب الترمذي فكأنما في بيته نبي يتكلم"، فلهذا يحتاج الطالب للحديث إلى همة عالية ووقت كاف وشيخ مساعد ومكتبة رفيعة وليكن اختياره للمكتبة على وفق الاختيار الذي ذكره ابن الصلاح في مقدمته ونظمه العراقي في ألفيته، فهذا اختيار جيد لمتون الحديث التي يحتاج إليها الطالب، ولا يستغني الطالب عن مراجعة علوم شتى تعينه على طلب الحديث كما لا يستغني عن الحفظ، فالحفظ هو أساس كل شيء في طلب الحديث.



نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.