الرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا اللّه

السؤال: الرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا اللّه

الإجابة

الإجابة: والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا اللّه، ولا يشركوا به شيئًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏‏.

‏‏ وإنما كانت الثلاثة ترجع إلى امتثال الأمر؛ لأنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض، كالصلوات الخمس والحج ونحو ذلك، يحتاج إلى فعل ذلك المأمور، وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى الامتناع والكراهة والإمساك عن ذلك، وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت، وأما من لم تخطر له المعصية ببال، فهذا لم يفعل شيئًا يؤجر عليه، ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلامته من عقوبة الذنب، والعدم المحض المستمر لا يؤمر به، وإنما يؤمر بأمر يقدر عليه العبد، وذاك لا يكون إلا حادثًا، سواء كان إحداث إيجاد أمر، أو إعدام أمر‏.

‏‏ وأما القدر الذي يرضى به، فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف، فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب، ومأمور بالرضا، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولان، ونفس الصبر والرضا بالمصائب هو طاعة للّه ورسوله، هو من امتثال الأمر وهو عبادة للّه‏.‏

لكن هذه الثلاثة وإن دخلت في امتثال الأمر عند الإطلاق، فعند التفصيل والاقتران‏:‏ إما أن تخص بالذكر، وإما أن يقال‏:‏ يراد بهذا مالا يراد بهذا، كما في قوله‏:‏ ‏{‏‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏، فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة، وعند الاقتران إما أن يقال‏:‏ ذكره عمومًا وخصوصًا، وإما أن يقال‏:‏ ذكره خصوصًا يغني عن دخوله في العام‏.

‏‏ ومثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏.‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏.‏ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا‏}‏‏ ‏[‏المزَّمل‏:‏ 8-10‏]‏‏.

‏‏ وقد يقال‏:‏ لفظ ‏[‏التبتيل‏]‏ لا يتناول هذه الأمور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة‏.‏

وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به الإنسان ابتداء، وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة، أو عند حب الشيء وبغضه‏.

‏‏ وكلام الشيخ قدس اللّه روحه يدور على هذا القطب، وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويخلوا فيما سواهما عن إرادة؛ لئلا يكون له مراد غير فعل ما أمر اللّه به، وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بلا واسطة العبد، أو فعله بالعبد بلا هوى من العبد‏.‏

فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به‏.

‏‏ وسيأتي في كلام الشيخ ما يبين مراده، وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به، ويترك ما نهي عنه‏.‏

وأما إذا لم يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله، وهذه هي ‏[‏الحقيقة‏]‏ في كلام الشيخ وأمثاله‏.‏

وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون العبد مأمورًا فيما فعله الرب‏.‏ إما بحب له وإعانة عليه‏.‏

وإما ببغض له ودفع له‏.

‏‏ والثاني‏:‏ ألا يكون العبد مأمورًا بواحد منهما‏.

‏‏ فالأول‏:‏ مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره، فهو مأمور بحبه وإعانته عليه، كإعانة المجاهدين في سبيل اللّه على الجهاد، وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب الإمكان، وبمحبة ذلك والرضا به، وكذلك هو مأمور عند مصيبة الغير‏:‏ إما بنصر مظلوم، وإما بتعزية مصاب، وإما بإغناء فقير ونحو ذلك‏.‏

وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه، فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان، فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه، وإنكاره بحسب الإمكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"‏‏‏.‏

وأما ما لا يؤمر العبد فيه بواحد منهما، فمثل ما يظهر له من فعل الإنسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها على طاعة ولا معصية‏.‏

فهذه لا يؤمر بحبها، ولا ببغضها، وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الاستعانة بها على طاعة ولا معصية‏.

‏‏ مع أن هذا نقص منه، فإن الذي ينبغي أنه لا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة، فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى اللّه تعالى بالنوافل بعد الفرائض، ولم يزل أحدهم يتقرب إليه بذلك حتى أحبه، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وأما من فعل المباحات مع الغفلة، أو فعل فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب المحارم باطنًا وظاهرًا، فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين‏.

‏‏ وبالجملة الأفعال التي يمكن دخولها تحت الأمر والنهي لا تكون مستوية من كل وجه، بل إن فعلت على الوجه المحبوب كان وجودها خيرًا للعبد، وإلا كان تركها خيرًا له وإن لم يعاقب عليها، ففضول المباح التي لا تعين على الطاعة عدمها خير من وجودها، إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة اللّه، فإنها تكون شاغلة له عن ذلك، وأما إذا قدر أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها، وإن شغلته عن معصية اللّه كانت رحمة في حقه، وإن كان اشتغاله بطاعة اللّه خيرًا له من هذا وهذا‏.

‏‏ وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الاستعانة بها على الطاعة، كالنوم الذي يقصد به الاستعانة على العبادة؛ والأكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الاستعانة به على العبادة، إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصًا من العبد وفوات حسنة، وخير يحبه الله، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك"‏‏، وقال في الصحيح "نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة‏"‏‏‏.

‏‏ فما لا يحتاج إليه من المباحات، أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة، فعدمه خير من وجوده، إذا كان مع عدمه يشتغل بما هو خير منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "في بضع أحدكم صدقة‏‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر‏.‏ قال‏:‏ ‏‏أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر‏؟‏‏‏ قالوا‏:‏ بلى ‏!‏ قال‏:‏ ‏فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر، فلم تعتدون بالحرام ولا تعتدون بالحلال ‏؟‏‏".

‏‏ وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه اللّه إلى ما أباحه اللّه، يقصد فعل المباح معتقدًا أن اللّه أباحه، ‏"واللّه يحب أن يأخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته‏"‏‏ كما رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره؛ ولهذا أحب القصر والفطر، فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي لا يحبه اللّه إلى ما يحبه اللّه من الرخصة، هو من الحسنات التي يثيبه اللّه عليها، وإن فعل مباحًا لما اقترن به من الاعتقاد والقصد اللذين كلاهما طاعة للّه ورسوله‏.‏فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى‏.

‏‏ وأيضًا، فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات، هو مأمور بالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش؛ ولهذا يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها، ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد، كما هو قول جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه، بل وهو مأمور بنفس عقد النكاح إذا احتاج إليه وقدر عليه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم "في بضع أحدكم صدقة‏"‏‏ فإن المباضعة مأمور بها لحاجته ولحاجة المرأة إلى ذلك، فإن قضاء حاجتها التي لا تنقضي إلا به بالوجه المباح صدقة‏.‏

والسلوك سلوكان‏:‏

سلوك الأبرار أهل اليمين، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا‏.‏

والثاني‏:‏ سلوك المقربين السابقين، وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏‏.‏

وكلام الشيوخ الكبار كالشيخ عبد القادر وغيره يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم، فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة، وبالعامة مسلك العامة، وطريق الخاصة طريق المقربين ألا يفعل العبد إلا ما أمر به، ولا يريد إلا ما أمر اللّه ورسوله بإرادته، وهو ما يحبه اللّه ويرضاه، ويريده إرادة دينية شرعية، وإلا فالحوادث كلها مرادة له خلقًا وتكوينًا‏.

‏‏ والوقوف مع الإرادة الخلقية القدرية مطلقًا غير مقدور عقلًا، ولا مأمور شرعًا؛ وذلك لأن من الحواث ما يجب دفعه ولا تجوز إرادته، كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله، أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على دفعه، أو أراد إضلال الخلق وإفساد دينهم ودنياهم، فهذه الأمور يجب دفعها وكراهتها؛ لا تجوز إرادتها‏.

‏‏ وأما الامتناع عقلا، فلأن الإنسان مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافره، فهو عند الجوع يحب ما يغنيه كالطعام، ولا يحب ما لا يغنيه كالتراب فلا يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء‏.

‏‏ وكذلك يحب الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعه، ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره، بل ويحب اللّه وعبادته وحده، ويبغض عبادة ما دونه، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ‏.‏ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ‏.‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75 - 77‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.

‏‏ فقد أمرنا اللّه أن نتأسى بإبراهيم والذين معه، إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون اللّه، وقال الخليل‏:‏ ‏{‏‏إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ‏.‏ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26- 27‏]‏، والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض وأصل الولاية الحب، وهذا لأن حقيقة التوحيد ألا يحب إلا اللّه، ويحب ما يحبه اللّه للّه، فلا يحب إلا للّه، ولا يبغض إلا للّه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏‏.‏

والفرق ثابت بين الحب للّه والحب مع اللّه، فأهل التوحيد والإخلاص يحبون غير اللّه للّه، والمشركون يحبون غير اللّه مع اللّه، كحب المشركين لآلهتهم، وحب النصارى للمسيح، وحب أهل الأهواء رؤوسهم‏.

‏‏ فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه، وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة وخلقًا، ولا هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدًا لجميع الحوادث، بل قد أمره اللّه بإرادة أمور وكراهة أخرى.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.