فصل: البدع مشتقة من الكفر

السؤال: فصل: البدع مشتقة من الكفر

الإجابة

الإجابة: فصل:

إذا تبين هذا الأصل، ظهر به اشتقاق البدع من الكفر، فنقول‏:‏ كما أن الذين أثنى الله عليهم من الذين هادوا والنصارى كانوا مسلمين مؤمنين، لم يبدلوا ما أنزل الله، ولا كفروا بشيء مما أنزل الله، وكان اليهود والنصارى صاروا كفاراً من جهة تبديلهم لما أنزل الله، ومن جهة كفرهم بما أنزل على محمد، فكذلك الصابئة صاروا كفاراً من جهة تبديلهم لما أنزل الله، ومن جهة كفرهم بما أنزل الله على محمد، وإن كانوا منافقين كما قد ينافق اليهودي والنصراني‏‏.‏

‏ و هؤلاء هم المستأخرون من اليهود والنصارى والصابئين‏.‏

وذلك أن متأخري الصابئين لم يؤمنوا أن لله كلاماً أو يتكلم،ويقول، أو أنه ينزل من عنده كلاماً وذكرا على أحد من البشر، أو أنه يكلم أحداً من البشر، بل عندهم لا يوصف الله بصفة ثبوتية، لا يقولون‏:‏ إن له علماً، ولا محبة ولا رحمة، وينكرون أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً، أو كلم موسى تكليماً، وإنما يوصف عندهم بالسَّلْبِ والنَّفْي، مثل قولهم‏:‏ ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا داخل العالم ولا خارجه، أو بإضافة، مثل كونه مبدأ للعالم أو العلة الأولى، أو بصفة مركبة من السلب والإضافة؛ مثل كونه عاقلا ومعقولا وعقلا‏.‏

وعندهم أن الله لا يخص موسى بالتكليم دون غيره، ولا يخص محمداً بإرسال دون غيره، فإنهم لا يثبتون له علماً مفصلا للمعلومات، فضلا عن إرادة تفصيلية، بل يثبتون إذا أثبتوا له علماً جملياً كلياً، وغاية جملية كلية، ومن أثبت النبوة منهم قال‏:‏ إنها فيض تفيض على نفس النبي من جنس ما يفيض على سائر النفوس، لكن استعداد النبي صلى الله عليه وسلم أكمل، بحيث يعلم ما لا يعلمه غيره، ويسمع ما لا يسمع غيره، ويبصر ما لا يبصر غيره، وتقدر نفسه على ما لا تقدر عليه نفس غيره‏.

‏ والكلام الذي تقوله الأنبياء هو كلامهم وقولهم، وهؤلاء الذين يقولون عن القرآن‏:‏‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ‏[‏المدثر‏:‏25‏]‏، فإن الوحيد الذي هو الوليد بن المغيرة كان من جنسهم؛ كان من المشركين الذين هم صابئون أيضاً؛ فإن الصابئين كأهل الكتاب تارة يجعلهم الله قسماً من المشركين، وتارة يجعلهم الله قسيماً لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ‏[‏البينة‏:‏1‏]‏ ‏‏‏{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّم} ‏[‏البينة‏:‏6‏]‏‏.

‏ وكذلك لما ذكر الملل الست في الحج فقال‏:‏{‏‏‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا}الآية ‏[‏الحج‏:‏17‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏‏{ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ‏ }الآية ‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، وهذا بعد قوله‏:‏‏{ ‏‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ‏‏‏‏}‏ إلى قوله‏:‏‏ ‏{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون}‏[‏التوبة‏:‏30 32‏]‏، وقال‏:‏‏{ ‏‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏ } [‏المائدة‏:‏72‏]‏، فإذا كان اليهود والنصارى قد يكونون مشركين فالصابئون أولى، وذلك بعد تبديلهم، فحيث وصفوا بالشرك فبعد التبديل، وحيث جعلوا غير مشركين فلأن أصل دينهم الصحيح ليس فيه شرك، فالشرك مبتدع عندهم، فينبغى التفطن لهذه المعاني‏.‏

وكان الوحيد من ذوي الرأي والقياس والتدبير من العرب، وهو معدود من حكمائهم وفلاسفتهم‏.

‏ ولهذا أخبر الله عنه بمثل حال المتفلسفة في قوله‏:‏‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَر}‏[‏المدثر‏:‏18-25‏]‏‏.

ثم إن هؤلاء فيما تقوله الأنبياء حيارى متهوكون؛ فإنه بَهَرَهُمْ نور النبوة، ولم تقع على أصولهم الفاسدة، فصاروا على أنحاء؛ منهم من لا يؤمن بكثير مما تقوله الأنبياء والمرسلون، بل يعرض عنه أو يشك فيه أو يكذب به، ومنهم من يقول‏:‏ يجوز الكذب لمصلحة راجحة، والأنبياء فعلوا ذلك، ومنهم من يقول‏:‏ يجوز هذا لصالح العامة دون الخاصة، وأمثلهم من يقول‏:‏ بل هذه تخيلات وأمثلة مضروبة لتقريب الحقائق إلى قلوب العامة، وهذه طريقة الفارابي، وابن سينا، لكن ابن سينا أقرب إلي الإيمان من بعض الوجوه، وإن لم يكن مؤمناً‏.‏

فمن أدركته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبهرته براهينها وأنوارها ورأى ما فيها من أصناف العلوم النافعة، والأعمال الصالحة حتى قال ابن سينا‏:‏ اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يطرق العالم ناموس أفضل من هذا الناموس فلابد أن يتأول نصوص الكتاب والسنة على عادة إخوانه في تحريف الكلم عن مواضعه، فيحرفون ما أخبرت به الرسل عن كلام الله، تحريفاً يصيرون به كفاراً ببعض تأويل الكتاب في بعض صفات تنزيله‏.‏

فلما رأوا أن الرسل سَمَّتْ هذا الكلام كلام الله، وأخبرت أنه نزلت به ملائكة الله، مثل الروح الأمين جبريل أطلقت هذه العبارة في الظاهر، وكفرت بمعناها في الباطن، وردوها إلى أصلهم أصل الصابئين، وصاروا منافقين في المسلمين وفي غيرهم من أهل الملل‏.‏

فيقولون‏:‏ هذا القرآن كلام الله، وهذا الذي جاءت به الرسل كلام الله، ولكن المعنى‏:‏ أنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفَعَّال، وربما قالوا‏:‏ إن العقل هو جبريل، الذي ليس على الغيب بضنين، أي بخيل؛ لأنه فياض‏.‏ ويقولون‏:‏ إن الله كلم موسى من سماء عقله، وإن أهل الرياضة والصفا يصلون إلى أن يسمعوا ما سمعه موسى كما سمعه موسى‏.‏

وقد ضل بكلامه كثير من المشهورين، مثل أبي حامد الغزالي، ذكر هذا المعنى في بعض كتبه، وصنفوا ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ وغيرها، وجمعوا فيها على زعمهم بين مقالات الصابئة المتأخرين التي هي الفلسفة المبتدعة، وبين ما جاءت به الرسل عن الله، فأتوا بما زعموا أنه معقول ولا دليل على كثير منه، وربما ذكروا أنه منقول‏.

‏ وفيه من الكذب والتحريف أمر عظيم، وإنما يضلون به كثيراً بما فيه من الأمور الطبيعية‏‏.‏

‏ والرياضية، التي لا تعلق لها بأمر النبوات والرسالة لا بنفي ولا بإثبات، ولكن ينتفع بها في مصالح الدنيا؛ كالصناعات من الحراثة والحياكة، والبناية والخياطة و نحو ذلك‏‏.‏

فإذا عرف أن حقيقة قول هؤلاء المشركية الصابئة، أن القرآن قول البشر كغيره، لكنه أفضل من غيره، كما أن بعض البشر أفضل من بعض، وأنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من المحل الأعلى كما تفيض سائر العلوم والمعارف على نفوس أهلها، فاعلم أن هذا القول كثر في كثير من المتأخرين المظهرين للإسلام، وهم منافقون وزنادقة، وإن ادعوا كمال المعارف من المتفلسفة والمتكلمة، والمتصوفة والمتفقهين، حتى يقول أحدهم كالتلمساني‏:‏ كلامنا يوصل إلى الله والقرآن يوصل إلى الجنة، وقد يقول بعضهم كابن عربي ‏:‏ إن الولي يأخذ من حيث ما يأخذ الملك الذي يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏‏.‏

‏ ويقول كثير منهم‏:‏ إن القرآن للعامة، وكلامنا للخاصة‏.‏

‏ فهؤلاء جعلوا القرآن عَضِين ‏[‏أي‏:‏ أجزاء متفرقة، بعضه شعر، وبعضه سحر، وبعضه كهانة، ونحو ذلك‏]‏، وضربوا له الأمثال؛ مثل ما فعل المشركون قبلهم، كما فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن هؤلاء منهم من يفضل الولي الكامل والفيلسوف الكامل على النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يفضل بعض الأولياء على زعمه، أو بعض الفلاسفة‏: مثل نفسه أو شيخه أو متبوعة على النبي صلى الله عليه وسلم‏‏.‏

وربما قالوا‏:‏ هو أفضل من وجه، والنبي أفضل من وجه، فلهم من الإلحاد والافتراء في رسل الله نظير ما لهم من الإلحاد والافتراء في رسالات الله، فيقيسون الكلام الذي بلغته الرسل عن الله بكلامهم، ويقيسون رسل الله بأنفسهم‏.‏

وقد بين الله حال هؤلاء في مثل قوله‏:‏‏{ ‏وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} إلى أن قال‏:‏‏{ ‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ} ‏[‏الأنعام‏:‏91-93‏]‏ فذكر الله إنزال الكتابين، اللذين لم ينزل من عند الله كتاب أهدى منهما التوراة والقرآن كما جمع بينهما في قوله‏:‏{ ‏قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[‏القصص‏:‏48-49‏]‏‏.‏



وكذلك الجن لما استمعت القرآن {‏قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ {‏‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ} [‏الأحقاف‏:‏10‏]‏؛ ولهذا قال النجاشي لما سمع القرآن ‏:‏ إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مِشْكاة واحدة‏.‏

‏ ثم ذكر تعالى حال الكذاب والمتنبئ، فقال‏:‏ {‏‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ} ‏[‏الأنعام‏:‏93‏]‏ فجمع في هذا بين من أضاف ما يفتريه إلى الله، وبين من يزعم أنه يوحى إليه ولا يعين من أوحاه؛ فإن الذي يدعي الوحي لا يخرج عن هذين القسمين‏‏. ‏

ويدخل في ‏[‏القسم الثاني‏]‏ من يُرِي عينيه في المنام ما لا تريا، ومن يقول‏:‏ ألقى في قلبي وألهمت ونحو ذلك، إذا كان كاذباً‏‏.‏

‏ ويدخل في ‏[‏القسم الأول‏]‏ من يقول‏:‏ قال الله لي، أو أمرني الله، أو وافقني، أو قال لي ونحو ذلك، بخيالات أو إلهامات يجدها في نفسه، ولا يعلم أنها من عند الله، بل قد يعلم أنها من الشيطان، مثل مُسَيْلَمَة الكذاب ونحوه، ثم قال تعالى‏:‏ ‏‏{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ} ‏[‏الأنعام‏:‏93‏]‏، فهذه حال من زعم أن البشر يمكنهم أن يأتوا بمثل كلام الله، أو أن هذا الكلام كلام البشر بفضيلة وقوة من صاحبه، فإذا اجتهد المرء أمكن أن يأتي بمثله‏‏.‏

‏ وهذا يعم من قال‏:‏ إنه يمكن معارضة القرآن، كابن أبي سرح في حال ردته، وطائفة متفرقين من الناس، ويعم المتفلسفة الصابئة المنافقين والكافرين، ممن يزعم أن رسالة الأنبياء كلام فاض عليهم قد يفيض على غيرهم مثله، فيكون قد أنزل مثل ما أنزل الله في دعوى الرسل؛ لأن القائل‏:‏ سأنزل مثل ما أنزل الله، قد يقوله غير معتقد أن الله أنزل شيئاً، وقد يقوله معتقداً أن الله أنزل شيئاً.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.