حجب مواقع اليوتيوب ونحوه في ميزان الشريعة

السؤال: فضيلة الشيخ، كنتم قد أفتيتم بفتوى خاصة بموقع اليوتيوب، على موقع طريق الإسلام، وما شاء الله كانت منصفة ومتزنة، وأحب أن ألفت انتباه فضيلتكم إلى الأحداث الأخيرة، وهي نشر رسوم مسيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الموقع، وقد قامت دولة باكستان بحجب موقع اليوتيوب، والفيس بوك، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟

الإجابة

الإجابة: الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:

فقد ظن بعضُ الأفاضل والغيورين أن إجازتَنا لمطالعةِ موقعِ اليوتيوبِ لمن يحتاجُه من العلماءِ، وطلابِ العلمِ، وكلِّ من يتصدى لدعوةِ الناسِ وفقَ ضوابطَ مذكورةٍ، ظنوا أننا غافلون عن الجهات التي تقف وراءَ الموقع، أو أنَّنا نأملُ منه نصرةَ الإسلامِ، أو حتى الكفَّ عن عدائِهم للشرعِ، أو أنَّنا - معاذَ اللهِ- نقرُّهُمْ على شيءٍ من قبائِحِهِمْ.

ولكنْ كلُّ ما قصدناه هو استخدامُ ذلك الموقعِ وغيرِهِ من الوسائلِ والتقنياتِ للدعوةِ في سبيلِ اللهِ، وفضحِ مخططاتِ أعداءِ الإسلامِ، أو هتكِ مكائدِ المنصرينَ وحِيَلِهم الصبيانيةِ، أو متابعةِ بعضِ البرامجِ والقضايا الهامةِ التي لا تتيسرُ لكلِّ أحدٍ، أو مشاهدةِ مناظراتِ أهلِ الباطلِ من الشيعةِ والصوفيةِ وغيرِهِمْ، أو نشرِ فضائحِ العلمانيينَ والمنافقينَ، واستفادةِ آحادِ المسلمين من العلومِ الإسلاميةِ المتنوعةِ المرفوعةِ على الموقعِ، إلى غيرِ ذلك من الكثيرِ والكثيرِ من الفوائدِ التي يصعُبُ تَتَبُّعُها، وكذلك استفادةُ المتخصصين من إمكانيةَ رفعِ الفيديوهاتِ على الموقع في تَتَبُّعِ شبهاتِ أهلِ الباطلِ والردِّ عليها ودحضِها، كالردِّ على فيلمِ "فتنةٍ" للهولنديِّ المتطرفِ (غيرت فيلدرز) بالفيلمِ السعوديِّ "الهدايةِ"، وكان نشرُهُ على اليوتيوبِ، سببًا لدحضِ الكفر.

وكذلك بيانُ الشيخِ "المنجدِ"، وردُّهُ على محاولاتِ محطاتِ "مونت كارلو" تحريفَ فتواهُ في (توم وجيري)، فراموا إضحاكَ الغربِ على علماءِ المسلمين؛ فكان ردُّ الشيخِ بلغتِهِم، ونشرُهُ عبرَ موقعِ اليوتيوبِ، دحضًا للفريةِ، وبيانًا للحجةِ، وإظْهارًا لتحريفِ المحطةِ لفتوى الشيخ.

وأيضًا فقدِ استخدمَ (شبابُ البالتوكِ)، موقعَ اليوتيوبِ في هتكِ سترِ الأفاكِ الأثيمِ (زكريا بطرسَ)، وبينوا كَذِبَه وشذوذَهُ، وما يختلقُه من قصصٍ المتنصرين؛ مما اضْطَرَّ بطرسَ للاستعطافِ عبرَ اليوتيوبِ.

هذا فضلًا عن مقاطعَ نادرةٍ للعلماءِ والدعاةِ، ونوادرِ القراءاتِ، مما له أعظمُ الأثرِ في الدعوةِ، إلى غير ذلك مما لا يكادُ ينتهي من الأمثلةِ.

ولما كانت التقنياتُ الحديثةُ شأنُها شأنُ كلِّ ما يأتينا من بلادِ الغربِ الكافرِ، له أوجُهُ خيرٍ وأوجُهُ شرٍّ؛ لذلك إن أمكن الاستفادةُ منها بوضعِ ضوابطَ لها، تكونُ بمثابةِ مِصفاةٍ؛ لتمريرِ المباحِ، ومنعِ الحرامِ، فتستفيدُ الأمةُ بالمصالحِ، وَتُدْرَأُ عنها المفاسدُ، وتُحْفَظُ عقيدةُ وخُلُقُ وهُويةُ المسلمين، فالواجبُ على علمائنا، مراعاةُ جميعِ أوجُهِ المسألةِ، وأن يستعينوا بأهل التخصصِ إن جهلوا شيئا منها.

اما القولُ بالتحريمِ سدًّا للذريعةِ، أو أن السلامةَ لا يعدلها شيءٌ، فكلُّ هذه قواعدُ شرعيةٌ معتبرةٌ، وتُتَّبَعُ، ولكنْ إن كانت المصلحةُ في الإباحةِ قيل بها، مع وضعِ الضوابطِ، ومن آنس من نفسه ضعفًا، أو ولوجًا للحرامِ، أو جرأةً على المُحرماتِ، فليبتعدْ؛ حفاظًا على دينه.

فليس الفقهُ معرفةَ الحلالِ من الحرامِ فقط، ولكنَّ الفقهَ هو: معرفةُ خيرِ الخيرينِ فيرتكب، وشرِّ الشرينِ فيجتنب؛ فالخيرُ والشرُّ إذا اجتمعا، ولم يمكنْ فصلُهما؛ وجب أن يُحصَّلَ أعظمُ المصلحتين، ويُدفعَ أعظمُ المفسدتين باحتمالِ أدناهما، فلا شك أن موقعَ اليوتيوبِ به شرٌّ كثيرٌ لا يخفى على أحدٍ، قد يقعُ في شيءٍ منه من لم يكن خبيرًا بالبحث في الموقعِ، أو لم يراعِ الضوابطَ التي ذكرناها في الفتوى المشارِ إليها، وعدمُ مطالعتِهِ شرٌّ أيضًا، والذي يظهرُ لنا: أن ضررَ الجهلِ بالمنشورِ، أكبرُ من ضررِ ما يَحْتَفُّ بالموقعِ من مخاطرَ قد يقعُ فيها الغِرُّ عند مطالعةِ الموقع؛ لا سيَّما من لا هدفَ له من وراءِ ذلك؛ لأن المفاسدَ يمكن تجنبُها بالضوابطِ، وبعدمِ الدخولِ على الصفحاتِ المشابهةِ، ولا توجدُ بدائلُ حتى الآنَ لموقعِ اليوتيوبِ - فيما أعلمُ - والبدائلُ المتاحةُ ضعيفةٌ لا تفي بالمطلوبِ.

ولذلك فإنك لن تجدَ موقعًا إسلاميًّا، أو منتدىً علميًّا أو دعويًّا أو غيرَ ذلك، إلا ويضعُ روابطَ على اليوتيوبِ لكلِّ ما يريدُ نشرَهُ أو الدعوةَ إليه، أو الإحالة عليه.

والحاصلُ أن التعاملَ معَ اليوتيوبِ على جميعِ المستوياتِ أصبح أمرًا واقعيًّا، لا يصلحُ معهُ التجاهلُ أو المكابرةُ، أو وضعُ الرأسِ في الرمالِ، أو المنعُ المطلقُ؛ وذلك لمصلحتِنا ومصلحةِ دعوتِنا، وليس لصالحِ الكفارِ فتَدَبَّرْ!

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة كما في " مجموع الفتاوى 20 57-58": ".... إذا اختلطت الحسناتُ بالسيئاتِ وقع الِاشتباهُ والتلازُمُ، فأقوامٌ قد ينظرون إلى الحسنات؛ فيرجحون هذا الجانبَ وإن تضمنَ سيئاتٍ عظيمةً، وأقوامٌ قد ينظرون إلى السيئاتِ فيرجحون الجانبَ الآخَرَ وإن ترك حسناتٍ عظيمةً، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرينِ، وقد لا يتبينُ لهم أو لأكثرهم مقدارُ المنفعةِ والمضرةِ، أو يتبينُ لهم فلا يجدون من يعينُهم على العملِ بالحسناتِ، وتركِ السيئات لكون الأهواءِ قارنتِ الآراءَ؛ ولهذا جاء في الحديث: "إن الله يحبُّ البصرَ النافذَ عندَ ورودِ الشبهاتِ، ويحبُّ العقلَ الكاملَ عندَ حلولِ الشهواتِ".

وقال في "الاستقامة1/439": (وعلى هذا استقرت الشريعةُ بترجيحِ خيرِ الخيرينِ، ودفعِ شرِّ الشرينِ، وترجيحِ الراجحِ من الخيرِ والشرِّ المجتمعين).

أما حجبُ دولة باكستانَ الإسلامية لموقعِ اليوتيوبِ، فمعلومٌ أن تلك البلادَ - ومع الأسفَ الشديدِ - جزءٌ هامٌّ من الحروبِ الصليبيةِ الشرسةِ المعلنةِ ضدَّ الإسلامِ والمسلمين، وعداءُ الحكوماتِ الباكستانيةِ المتعاقبةِ للإسلامِ والمسلمين مشهورٌ غيرُ خافٍ على أحدٍ، وتعاوُنُها مع أمريكا في سحقِ مسلمي القبائلِ الباكستانيةِ، ثم تعاوُنُها مع أمريكا في الحربِ على ما يُسَمَّى - بالإرهابِ - وهو ما يَعنِي عند الأمريكانِ - الحربَ على الإسلامِ، أشهرُ من أن يُذكرَ وأعرفُ من أن يُعَرَّفَ، وما تدميرُ المسجدِ الأحمرِ وقتلُ المئاتِ من حفظةِ القرآنِ الكريمِ منا ببعيدٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ونحن لا نقصدُ بذكر هذا الكلامِ الشعبَ الباكستانيَّ المسلمَ الغيورَ، وإنما قصدُنا التذكيرُ ببعضِ جرائمِ حكومتِهِم العميلة، حتى يَعْلمَ مَن يستدلُّ بفعلِهِم، أنهُ يجبُ عليه أن يستحيَ من اللهِ من ذلك، فلولا العَمَالةُ المفضوحةُ للمواقفِ الرسميةِ لتلك البلادِ، ولولا اشتراكُها في الحربِ على الإسلامِ؛ لما استطاعت أمريكا أن تحتلَّ أفغانستانَ، ولا أن تقتلَ من قتلت من قبائلِ الباكستانِ، ولما استطاعت أمريكا أن توصلَ أيَّ مساعداتٍ لوجستيةٍ، ولا أسلحةٍ لجنودِها في أفغانستانَ، وكلُّ هذا نظيرُ بضعةِ ملايينَ من الدولاراتِ وَوُعودٍ بمساعداتٍ.

ثم إن مسألةَ المقاطعةِ لمنتجاتِ أعداءِ الأمةِ، منوطةٌ بما يمكنُ الِاستغناءُ عنه كبعضِ المأكلِ والمشربِ والمركبِ، ولا يُتَصَوَّرُ أن تشملَ المقاطعةُ ما لا ننتجهُ وهو ضروريٌّ لنا، كبرامجِ الحاسوبِ والأسلحةِ الحديثةِ والآلاتِ الثقيلةِ، وغيرِ هذا من الأشياءِ التي تكونُ المقاطعةُ فيها عقابًا لنا ولشعوبنا وليس لأعداءِ الإسلامِ.

هذا؛ وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم،، والله أعلم.



من فتاوى زوار موقع طريق الإسلام.