تفسير: {وما يعلم تأويله إلا الله...}

السؤال: ما تفسير قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}؟

الإجابة

الإجابة: إن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن جميعاً بالإحكام، ووصفه جميعاً بالتشابه، ووصف بعضه بالإحكام وبعضه بالتشابه، فالإحكام العام لجميع القرآن هو المذكور في قول الله تعالى: {الر * كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}، والمقصود به الإتقان، أي أنه جميعاً متقن ليس فيه تفاوت ولا اختلاف ولا اختلال ولا خطأ، والتشابه العام هو المذكور في قول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً}، ومعناه أن بعضه يفسر بعضاً ويصدِّقه، فالقصة إذا أردت الإحاطة بها قصة موسى مثلاً إذا أردت الإحاطة بها فاقرأها في عدد من المواضع في القرآن، فما طوي منها في موضع نشر في موضع آخر، ولن تجد بينها اختلافاً ولا تناقضاً، وسيفسر لك بعض تلك الآيات بعضاً ويبينه، ولذلك فإن العلامة محمد الأمين بن محمد المختار آب رحمة الله عليه لمَّا أراد أن يؤلف تفسيره سماه: "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" فالمواضع التي فسرت في القرآن هي التي ركز عليها في تفسيره، فلهذا بعض القراءات أيضاً يفسر بعضاً، فأنت مثلاً إذا كنت تقرأ بقراءة نافع فقرأتَ قول الله تعالى في قصة نوح في سورة هود: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، من كلٍ زوجين اثنين، ستستشكل هذا وتقول: كيف أحمل من كل زوجين اثنين؟ هما اثنان فقط زوجان اثنان؟ كيف أحمل منهما اثنين؟ تفسير ذلك في القراءات الأخرى، اقرأ القراءات الأخرى ستجد: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، من كلٍّ أي من كل نوع من الخلائق زوجين اثنين، فقراءة من كلٍّ تفسير لقراءة من كلِّ زوجين اثنين، وهكذا، فالقرآن بعضه يفسر بعضاً ويصدقه.

أما التشابه الخاص فمعناه خفاء الدلالة، والإحكام الخاص معناه وضوح الدلالة، وقد قال الله تعالى: {مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي أن القرآن منه آيات محكمات واضحات الدلالة هن أم الكتاب أي جمهوره وأغلبه، وأخر أي آيات أخر قليلة متشابهات أي خفيات الدلالة، وهذا الخفاء ينقسم إلى قسمين: إلى تشابه مطلق وتشابه مقيد، فالتشابه المقيد هو ما اختص بوقت كالوعود التي يعد الله بها، فتأتي متشابهة عند نزولها فإذا تحققت زال عنها التشابه، كقول الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}، وقد نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرته عمرة الحديبية التي صُدَّ فيها عن المسجد الحرام، فنزلت متشابهة لأن ذلك لم يتحقق في ذلك العام، لكن زال عنها التشابه عندما تحقق ذلك في العام اللاحق في ذي القعدة من العام السابع عندما خرج له أهل مكة عن مكة ثلاثاً فدخلها بأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون إلا الله تعالى، ومثل ذلك قول الله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، فهذا وعد من الله أن يخلق من أنواع المراكب ما لا نعلمه، وقد تحقق من ذلك ما نعلمه اليوم من السيارات والطائرات وحاملات الطائرات والمراكب الفضائية وغيرها كل ذلك مما يدخل في قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، أي سيخلق ذلك في المستقبل، فقد كانت هذه الآية عند نزولها من المتشابه وهي الآن واضحة الدلالة فيما دلت عليه، وإن كانت لا تقتضي حصراً، فما ذُكر من أنواع المركوبات قد يحصل في المستقبل أضعافه مما لا يخطر لنا على بالٍ الآن.

والمتشابه المطلق مثل فواتح السور فهي مما استأثر الله بعلمه: {الم}، {المص}، {الر}، {كهيعص}، {حم}، {حم عسق}، {ق}، {ن}، هذه الفواتح مما استأثر الله بعلمه، فهي إما أسماء للسور وإما إعجاز ولذلك من إعجازها أن المشركين لم يعترضوا عليها ولم يسألوا عن معانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء السؤال عنها وبدأ في أواخر عهد الصحابة عندما جاء التابعون، فلم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شيء منها، لم يسأله مسلم ولا كافر عن معنى قوله: {كهيعص}، لم يعترض ذلك مسلم ولا كافر ولم يسأل عنه، فهذا من إعجاز القرآن ومن عجائب الله فيه، هنا قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي أن الناس في سبيل المتشابه الخاص قسمان:

القسم الأول الذين في قلوبهم زيغ، وهؤلاء هم الذين فيهم شائبة نفاق يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، أي الردة عن الإسلام، {وابتغاء تأويله}، أي صرفه عن مقتضاه أو التطلع على معرفة معناه، ولا يمكن أن يصلوا إلى ذلك: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}.

والقسم الثاني: وهو القسيم المقابل لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، أي وأما الراسخون في العلم، فهؤلاء يقولون: {آمنا به كل من عند ربنا}، محكمه ومتشابهه كل من عند الله تعالى فيؤمنون به جميعاً ويصدقون به.



نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.