فصــل في تفسير {وجعلو لله شركاء قل سموهم}

السؤال: فصــل في تفسير قوله تعالى {وجعلو لله شركاء قل سموهم}

الإجابة

الإجابة:

في آيات ثلاث متناسبة متشابهة اللفظ والمعني، يخفي معناها على أكثر الناس ‏.

‏‏‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}‏‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 41- 42‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ}‏‏[‏النحل‏:‏ 9‏]‏‏.
‏‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى‏} ‏[‏الليل‏:‏12-13‏]‏‏.
‏‏
فلفظ هذه الآيات فيه أن السبيل الهادي هو على الله‏.‏

وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في الآية الأولي ثلاثة أقوال، بخلاف الآيتين الأخريين، فإنه لم يذكر فيهما إلا قولا واحدًا‏.
‏‏
فقال في تلك الآية‏:‏ اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يعني بقوله هذا‏:‏ الإخلاص‏.‏ فالمعنى أن الإخلاص طريق إلى مستقيم، و‏(‏علي‏)‏ بمعنى ‏(‏إلي‏)‏‏.
‏‏
والثاني‏:‏ هذا طريق على جوازه، لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم‏.‏ وهو خارج مخرج الوعيد، كما تقول للرجل تخاصمه‏:‏ طريقك علي، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ‏} ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏‏.
‏‏
والثالث‏:‏ هذا صراط على استقامته، أي‏:‏ أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان‏.
‏‏
قال‏:‏ وقرأ قتادة، ويعقوب‏:‏‏(‏هَذَا صرِاَطٌ على‏)‏ أي‏:‏ رفيع‏.‏

قلت‏:‏ هذه الأقوال الثلاثة قد ذكرها مَنْ قبله، كالثعلبي، والواحدي، والبغوي، وذكروا قولا رابعًا‏.

‏‏‏ فقالوا واللفظ للبغوي، وهو مختصر الثعلبي‏:‏

قال الحسن‏:‏ معناه صراط إلى مستقيم‏.
‏‏
وقال مجاهد‏:‏ الحق يرجع إلي، وعليه طريقه لا يعرج على شيء‏.
‏‏
وقال الأخفش‏:‏ يعني على الدلالة على الصراط المستقيم‏.
‏‏
وقال الكسائي‏:‏ هذا على التهديد والوعيد، كما يقول الرجل لمن يخاصمه‏:‏ طريقك علي، أي‏:‏ لا تفلت مني، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}‏‏‏.
‏‏
وقيل‏:‏ معناه‏:‏ على استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية‏.‏

فذكروا الأقوال الثلاثة، وذكروا قول الأخفش‏:‏ على الدلالة على الصراط المستقيم‏.

‏‏‏ وهو يشبه القول الأخير، لكن بينهما فرق‏.
‏‏
فإن ذاك يقول‏:‏ على استقامته بإقامة الأدلة‏.‏

فمن سلكه كان على صراط مستقيم‏.‏

والآخر يقول‏:‏ على أن أدل الخلق عليه بإقامة الحجج‏.‏

ففي كلا القولين أنه بَينَ الصراط المستقيم بنصب الأدلة، لكن هذا جعل الدلالة عليه، وهذا جعل عليه استقامته أي بيان استقامته وهما متلازمان؛ ولهذا والله أعلم لم يجعله أبو الفرج قولا رابعًا‏.

‏‏‏ وذكروا القراءة الأخري عن يعقوب وغيره‏:‏ أي‏:‏ رفيع‏.‏

قال البغوي‏:‏ وعبر بعضهم عنه‏:‏ ‏(‏رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال‏)‏‏.‏
<
قلت‏:‏ القول الصواب‏:‏ هو قول أئمة السلف قول مجاهد ونحوه فإنهم أعلم بمعاني القرآن‏.
‏‏
لاسيما مجاهد فإنه قال‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية، وأسأله عنها‏.‏

وقال الثوري‏:‏ إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به‏.‏

والأئمة كالشافعي، وأحمد، والبخاري، ونحوهم، يعتمدون على تفسيره، والبخاري في صحيحة أكثر ما ينقله من التفسير ينقله عنه‏.‏

والحسن البصري أعلم التابعين بالبصرة‏.‏

وما ذكروه عن مجاهد ثابت عنه، رواه الناس كابن أبي حاتم وغيره، من تفسير ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله‏:‏‏{‏‏هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ‏} ‏[‏الحجر‏:‏41‏]‏ الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه لا يعرج على شيء‏.
‏‏
وذكر عن قتادة أنه فسرها على قراءته وهو يقرأ‏:‏ ‏(‏عَلِي‏)‏ فقال‏:‏ أي‏:‏ رفيع مستقيم‏.
‏‏
وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن السلف أنهم فسروا آية النحل‏.‏ فروي من طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله‏:‏ {‏‏قَصْدُ السَّبِيلِ}‏‏ ‏[‏النحل‏:‏ 9‏]‏، قال‏:‏ طريق الحق على الله‏.‏

قال‏:‏ وروي عن السدي أنه قال‏:‏ الإسلام‏.‏

وعطاء قال‏:‏ هي طريق الجنة‏.

فهذه الأقوال قول مجاهد، والسدي، وعطاء في هذه الآية هي مثل قول مجاهد، والحسن، في تلك الآية‏.‏

وذكر ابن أبي حاتم من تفسير العوفي، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ {‏‏وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}‏‏، يقول‏:‏ على الله البيان أن يبين الهدي والضلالة‏.‏

وذكر ابن أبي حاتم في هذه الآية قولين، ولم يذكر في آية الحجر إلا قول مجاهد فقط‏.

‏‏‏ وابن الجوزي لم يذكر في آية النحل إلا هذا القول الثاني ، وذكره عن الزجاج ، فقال‏:‏‏{‏‏وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ‏، القصد‏:‏ استقامة الطريق ، يقال‏:‏ طريق قَصْدٍ، وقاصد، إذا قصد بك إلى ما تريد، قال الزجاج‏:‏ المعني‏:‏ وعلى الله تبيين الطريق المستقيم، والدعاء إليه بالحجج والبراهين‏.

‏‏‏ وكذلك الثعلبي، والبغوي، ونحوهما، لم يذكروا إلا هذا القول لكن ذكروه باللفظين‏.‏

قال البغوي‏:‏ يعني بيان طريق الهدي من الضلالة‏.‏

وقيل‏:‏ بيان الحق بالآيات والبراهين‏.
‏‏
قال‏:‏ والقصد‏:‏ الصراط المستقيم، ‏{‏وَمِنْهَا جَآئِرٌ‏}‏ ‏:‏ يعني‏:‏ ومن السبيل ما هو جائر عن الاستقامة معوج‏.‏

فالقصد من السبيل‏:‏ دين الإسلام، والجائر منها‏:‏ اليهودية، والنصرانية، وسائر ملل الكفر‏.
‏‏
قال جابر بن عبد الله‏:‏ قصد السبيل‏:‏ بيان الشرائع والفرائض‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك، وسهل بن عبد الله‏:‏ قصد السبيل‏:‏ السنة، ‏{‏وَمِنْهَا جَآئِرٌ‏}‏‏:‏ الأهواء والبدع‏.‏

دليله‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏} ‏[‏الأنعام‏:‏153‏]‏‏.

‏‏‏ ولكن البغوي ذكر فيها القول الآخر، ذكره في تفسير قوله تعالى‏:‏‏{‏‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏‏[‏الليل‏:‏12‏]‏، عن الفراء، كما سيأتي‏.‏

فقد ذكر القولين في الآيات الثلاث تبعًا لمن قبله، كالثعلبي وغيره‏.
‏‏


في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ}‏‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏، قيل‏:‏ المراد سموهم بأسماء حقيقة لها معان تستحق بها الشرك له والعبادة، فإن لم تقدروا بطل ما تدعونه‏.
‏‏
وقيل‏:‏ إذا سميتموها آلهة فسموها باسم الإله، كالخالق والرازق، فإذا كانت هذه كاذبة عليها فكذلك اسم الآلهة، وقد حام حول معناها كثير من المفسرين، فما شفوا عليلا ولا أرووا غليلاً، وإن كان ما قالوه صحيحًا‏.‏

فتأمل ما قبل الآية وما بعدها يطلعك على حقيقة المعني، فإنه سبحانه يقول‏:‏‏{‏‏أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏} ‏[‏الرعد‏:‏33‏]‏،وهذا استفهام تقرير يتضمن إقامة الحجة عليهم،ونفي كل معبود مع الله،الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت بعلمه، وقدرته، وجزائه في الدنيا والآخرة‏.

‏‏فهو رقيب عليها، حافظ لأعمالها،مجاز لها بما كسبت من خير وشر‏.‏

فإذا جعلتم أولئك شركاء فسموهم إذًا بالأسماء التي يسمي بها القائم على كل نفس بما كسبت، فإنه سبحانه يسمي بالحي القيوم، المحيي المميت، السميع البصير، الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، ووجود كل شيء به‏.‏

فهل تستحق آلهتكم اسمًا من تلك الأسماء‏؟‏ فإن كانت آلهة حقًا فسموها باسم من هذه الأسماء، وذلك بهت بين؛ فإذا انتفي عنها ذلك علم بطلانها كما علم بطلان مسماها‏.‏

وأما إن سموها بأسمائها الصادقة عليها كالحجارة، وغيرها من مسمي الجمادات، وأسماء الحيوان التي عبدوها من دون الله، كالبقر وغيرها، وبأسماء الشياطين الذين أشركوهم مع الله جل وعلا وبأسماء الكواكب المسخرات تحت أوامر الرب، والأسماء الشاملة لجميعها أسماء المخلوقات المحتاجات، المدبرات، المقهورات‏.

‏‏‏ وكذلك بنو آدم عبادة بعضهم بعضا، فهذه أسماؤها الحق، وهي تبطل إلهيتها؛ لأن الأسماء من لوازم الإلهية مستحيلة عليها، فظهر أن تسميتها آلهة من أكبر الأدلة على بطلان إلهيتها، وامتناع كونها شركاء لله عز وجل‏.





مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.