بر الوالدة لا ينسي بر الوالد

لي قريب وهو في الوقت نفسه صديق عزيز جداً أحب له الخير وأخاف عليه من الشر، شاب جامعي ذو أخلاق طيبة جداً، محافظ على الصلوات في المسجد، ويحضر المحاضرات والندوات الدينية في كثير من الأحيان، طلق والده والدته منذ حوالي سنتين، أو أكثر وتزوج غيرها، ووالدته لها عدة أولاد ذكور لكنها استقرت عنده هو؛ لرحمته لها وبره بها، وقد قال لي والده يوماً لمعرفته أنني صديق لابنه المذكور إن كنت تحب فلان فانصحه فإنه عاق لي، ثم أخذ يشتكي من معاملته له، وأنه لا يحترمه، فوعدته خيراً، وذهبت لصديقي وذكرته ببر الوالدين، وأن بره بأمه يجب ألا ينسيه بره بوالده، وأن لوالده عليه حقاً مهما كانت علاقته سيئة مع أمه، رغم أنني أقول: إن والده رجل محافظ على الصلوات حسب علمي، قائم بواجبه نحو أولاده، وصَّالاً لرحمه، وإن كان فيه بعض القسوة على زوجته التي طلقها، ولقد دهشت جداً حينما قال لي صديقي: إن هذه المعاملة هي التي يستحقها والده، واشتكى منه، وأنه يعامله معاملة سيئة ولا يحترمه؛ لذلك فهو يعامله بنفس معاملته، فذكرت له أن ذلك لا ينبغي، وأن الوالد وإن ضرب ولده، أو كان فاحشاً عليه بالكلام ولو بدون سبب، ولو أمام الناس؛ فإن الولد يجب أن يصبر، ومن الدين، والشرف، والكرامة طاعة الوالد، وعدم معصيته، فما بالك في مخاصمته ورد الكلام عليه، فقال لي صديقي: هذا أبي يعرف قدر نفسه جيداً! ولو حدث وفعل معي ما ذكرته لضربته ولجعلته عبرة لغيره، فلما سمعت هذه المقالة علمت أن النصيحة لصاحبي من قبلي لن تجدي، وأنه إما يجهل عظم عقوق الوالدين، أو أنه عاص لله على علم وبصيرة، فلجأت إلى الله، ثم إلى سماحتكم لعله يستمع إلى سماحتكم، ويعود إلى صوابه؟ جزاكم الله خيراً.

الإجابة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد: فلقد نصحت هذا الرجل، وأحسنت في نصيحته، ولقد أخطأ فيما قال لك، وأسأ فيما يتعلق بوالده والواجب عليه أن يبر والده، وأن يخاطبه بالتي هي أحسن، وأن يتذكر حق الوالد، وإن كان قد طلق أمه فالوالد له حق عظيم، والوالدة لها حق عظيم، كلاهما له حق، ولكن حق الوالدة أكبر، وأعظم، ولكن ذلك لا يمنع من أداء الواجب للوالد، فالواجب على صديقك أن يتقي الله، وأن يراقب الله وأن يبر أباه ويحسن إليه، وإن أساء أبوه إليه، لا يقابل الإساءة بالإساءة ولكن يقابل الإساءة بالإحسان، والكلام الطيب والأسلوب الحسن، والدعاء لوالده بالخير، والاستقامة، والهداية هذا هو الواجب عليه، وقد دلت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة على ذلك، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا (15) سورة الأحقاف، وفي آية أخرى: حُسْنًا (8) سورة العنكبوت، ويقول جل وعلا: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) سورة لقمان، ويقول جل وعلا: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (36) سورة النساء، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (23-24) سورة الإسراء، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين)، ويقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور)، فعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وقد قرنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشرك فوجب على هذا الرجل وعلى غيره أن يبر والده، وأن يتقي الله في ذلك، ولو أساء إليه والده، ولكن هو يدعو لوالده بالتوفيق والهداية، ويطلب من إخوانه الطيبين من أعمامه، أو غيرهم، أو ينصحوا والده حتى لا يقسوا عليه وحتى يرحمه، وحتى يعطف عليه، بالكلام الطيب، أو هو فالواجب عليه أن يبر والده، وألا ينسيه بره لوالدته بره لأبيه، فليتق الله وليعامل أباه بالحسنى، وقد قال الله عز وجل، في الولد مع أبويه الكافرين قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (15) سورة لقمان معروفاً، وهما كافران، فكيف بالمسلم، فعلى صديقك هذا أن يتقي الله، وأن يتوب إلى الله من عمله السيئ، وأن يبر والده، ويحسن إليه وأن يتلطف به، وأن يدعو الله له بالتوفيق والهداية، وأن يستعين على ذلك بخواص إخوانه الطيبين من أعمام، أو أخوال أو أصدقا حتى ينصحوا والده؛ ليرفق به ويعامله بما ينبغي من اللطف، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى، نسأل الله للجميع الهداية.