كيف نجمع بين أحاديث الحجامة المتعلقة بالصيام؟

السؤال: كيف يكون الجمع بين هذين الحديثين: 1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم"(متفق عليه). 2- عن شداد بن أوس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجلاً بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثماني عشرة خلت من رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" (رواه أبو داود وابن ماجه والدارمي)؟

الإجابة

الإجابة: اختلف العلماء في الجمع بينهما، فمنهم مَن قال: إن حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" لم يثبت، فقد نقل عن الشافعي أنه علق القول به على صحته، وقال ذلك أيضاً بعض المالكية، ومنهم من قال: إنه منسوخ بالأحاديث الدالة على عدم الفطر بالحجامة، وكلا الجوابين -غير صحيح-.

فالحديث (صحيح صححه أحمد والبخاري وابن المديني) -رحمهم الله- والقول بنسخه يتوقف على أمرين: أحدهما: العلم بأنه سابق على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دليل على ذلك، الثاني: أن لا يمكن الجمع بينه وبين فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يمكن الجمع بحمل احتجام النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوصية، أي أن عدم الإفطار بالحجامة خاص به، كما اُختص بكثير من الأحكام صلى الله عليه وسلم، وعليه فيعمل بحديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - ويحمل حديث ابن عباس رضي الله عنهما على الخصوصية أو أنه منسوخ، وأيضاً فالعمل بحديث شداد بن أوس أحوط، وما كان أحوط فهو أولى عند الاشتباه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

ولأن الوقوع في المشتبه إن كان الإنسان ورعاً أوجب له القلق وتشويش الفكر، وإن كان غير ورع أوجب له التهاون حتى يقع في الحرام الصريح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام: كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه".

ومن القواعد المقررة أن الفعل لا يعارض القول، فإذا تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع السليمة وجب تقديم القول، لأن الفعل يحتمل أن يكون لسبب يعارض عموم القول لم نعلم به، لاسيما الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد يكون خاصًّا به، والحجامة للصائم قد يكون جوازها وعدم الفطر بها خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن علة الإفطار بها الضعف الحاصل بخروج الدم من البدن، فيحتاج البدن إلى التعويض عنه بالأكل، وهذه العلة قد تكون منتفية في حق النبي صلى الله عليه وسلم، كما انتفت في حقه علة النهي عن الوصال في الصوم، فإن استقام هذا التخصيص صارت الحجامة مُفطرة في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم غير مُفطرة في حقه وزال الإشكال.

وإن لم يستقم ذلك فجمهور العلماء على أن الحجامة لا تفطر احتجاجاً بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي في (صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، لأنه أقوى من حديث شداد: "أفطر الحاجم والمحجوم"، قال الشافعي: "حديث ابن عباس أمثلهما إسناداً، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إليَّ احتياطاً، والقياس مع حديث ابن عباس، والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة" ذكره في مختلف الحديث، نقله عنه في (فتح الباري) ص "771 ج 4" المطبعة السلفية، وذكر في (مختصر المزني) "ص 035" المطبوع في آخر كتاب الأم.

والذي أحفظ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وعامة المدنيين، أنه لا يفطر أحد بالحجامة، اه- وأجابوا عن حديث شداد على تقدير صحته بأن معناه: أن الحاجم والمحجوم متعرضان للفطر، لما يلحق الحاجم من احتمال دخول الدم إلى جوفه عند مص القارورة، وما يلحق للمحجوم من احتمال الضعف الذي لا يتمكن معه من إتمام الصوم، وإما بأنه منسوخ ولكن كل ما ذكروا قد أجاب عنه ابن القيم في (تهذيب السنن) "ص 342 - 852" فأجاد وأفاد، وصحح أن الحجامة تفطر الصائم الحاجم والمحجوم.



مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد التاسع عشر - كتاب مفسدات الصيام.