فصل في قولهم: فلان يسلم إليه حاله

السؤال: فصل في قولهم: فلان يسلم إليه حاله

الإجابة

الإجابة: فَصْل:

ومما يناسب هذا الباب قولهم‏:‏ فلان يسلم إليه حاله، أو لا يسلم إليه حاله، فإن هذا كثيراً ما يقع فيه النزاع فيما قد يصدر عن بعض المشائخ، والفقراء، والصوفية، من أمور يقال‏:‏ إنها تخالف الشريعة، فمن يرى أنها منكرة وإن إنكار المنكر من الدين، ينكر تلك الأمور، وينكر على ذلك الرجل وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه، ومن رأي ما في ذلك الرجل من صلاح وعبادة، كزهد وأحوال، وورع، وعلم لا ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو يعرض عن ذلك‏.

‏‏ وقد يغلو كل واحد من هذين، حتى يخرج بالأول، إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الاجتهاد، متبعاً لظاهر من أدلة الشريعة، ويخرج بالثاني إقراره إلى الإقرار بما يخالف دين الإسلام مما يعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بخلافه، اتباعاً في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر، والأول يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلي يهودية والثاني يكثر في العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية‏.‏

والأول‏:‏ كثيراً ما يقع في ذوي العلم، لكن مقروناً بقسوة وهوى‏.

‏‏ والثاني‏:‏ كثيراً ما يقع في ذوي الرحمة، لكن مقروناً بضلال وجهل‏.‏

فأما الأمة الوسط‏:‏ فلهم العلم والرحمة، كما أخبر عن نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً}‏‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 98‏]‏، وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال‏:‏ ‏{‏‏آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}‏‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 65‏]‏‏.

‏‏ والعدل في هذا الباب قولاً وفعلاً، أن تسليم الحال له معنيان‏:‏ أحدهما‏:‏ رفع اللوم عنه بحيث لا يكون مذموماً ولا مأثوماً ‏‏‏.

‏‏ والثاني‏:‏ تصويبه علي ما فعل بحيث يكون محموداً مأجوراً‏.

‏‏ فالأول عدم الذم والعقاب‏.

‏‏ والثاني‏:‏ وجود الحمد والثواب‏.

‏‏ الأول‏:‏ عدم سخط الله وعقابه، والثاني‏:‏ وجود رضاه وثوابه؛ ولهذا تجد المنكرين غالباً في إثبات السخط والذم والعقاب، والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب، وكلاهما قد يكون مخطئاً ويكون الصواب في أمر ثالث وسط، وهو أنه لا حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب‏.

‏‏ وبيان ذلك‏:‏ أن ذلك الأمر الصادر عنه سواء كان قولاً أو فعلاً، إذا علم أنه مخالف للكتاب والسنة، بحيث يكون قولاً باطلاً، أو عملاً محرماً فإنه يعذر في موضعين‏:‏

أحدهما‏:‏ عدم تمكنه من العلم به‏.‏

والثاني‏:‏ عدم قدرته على الحق المشروع‏.‏

مثال الأول‏:‏ أن يكون صاحب الحال مولها مجنوناً، قد سقط عنه القلم، فهذا إذا قيل فيه‏:‏ يسلم له حاله، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب، لا بمعنى تصويبه فيه، كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح‏.‏

وإن عنى به أن ذلك القول صواب فهذا خطأ‏.

‏‏ وكذلك إذا كان ذلك الحال صادراً عنه باجتهاد، كمسائل الاجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين‏.‏

فإن هذا إذا قيل‏:‏ يسلم إليه حاله، كما يقال‏:‏ يقر على اجتهاده، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب فهو صحيح‏.‏

وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب، أو صحيح، فلابد من دليل على تصويبه، و إلا فمجرد القول، أو الفعل الصادر من غير الرسول، ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل، فإذا علم أن ذلك الاجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعني رفع الذم عنه، لا بمعنى إصابته وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره، أنه يقر على حكمه، فلا ينقض، أو على فتياه، فلا تنكر أو على جواز إتباعه لمن هو من أهل تقليده وإتباعه، بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده، وإتباعه من العلماء والمشايخ، فيما لم يظهر لهم أنه خطأ، لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني، الذي لم يعلم مخالفته للشريعة‏.

‏‏ وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور، أو عرف أنه صادق في طريقه، وإن هذا الأمر قد يكون اجتهاداً منه، فهذه ثلاثة مواضع يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم، وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به‏.

‏‏ ومثال الثاني‏:‏ عدم قدرته أن يرد عليه من الأحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه، أو يلطم وجهه، أو يصيح صياحاً منكراً، أو يضطرب اضطراباً شديداً‏.‏

فهذا إذا عرف أن سبب ذلك لم يكن محرماً، وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله، وإن شك هل هو مغلوب، أو متصنع، فإن عرف منه الصدق، قيل‏:‏ هذا يسلم إليه حاله، وإن عرف كذبه أنكر عليه، وإن شك فيه توقف في التسليم والإنكار، حتى يتبين أمره، كما يفعل بمن شهد شهادة، أو اتهم بسرقة‏.

‏‏ فإن ظهر صدقه وعدله قبلت الشهادة ودفعت إليهم، وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة، وعوقب على السرقة، وإن اشتبه الأمر توقف فيه؛ فإن المؤمن وقاف متبين، هكذا قال الحسن البصري‏.‏

وكذلك إذا ترك الواجبات مظهراً أنه مغلوب لا يقدر على فعلها، مثل أن يترك الصلاة مظهراً أنه بمنزلة المغمى عليه، والنائم الذي لا يتمكن من فعلها‏.

‏‏ كما قد يعترى بعض المصعوقين من وارد خوف الله، أو محبته، أو نحو ذلك بحيث يسقط تمييزه، فلا يمكنه الصلاة، فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات، فتسليم الحال بمعني عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور، وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم‏.

‏‏ هذا فيما يعلم من الأقوال والأفعال أنه مخالف للشرع بلا ريب، كالشطحات المأثورة عن بعض المشائخ، كقول ابن هود‏:‏ إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، وكون الشبلي كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتي أدخلوه المارستان مرتين، وما يحكى عن بعضهم أنه قال‏:‏ إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به، وكترك آخر صلاة الجمعة خلف إمام صالح، لكونه دعاً لسلطان وقته وسماه العادل، وترك آخر الصلاة خلف إمام؛ لما كوشف به من حديث نفسه، وما يحكي عن عقلاء المجانين الذين قيل فيهم‏:‏ إن الله أعطاهم عقولاً وأحوالا فسلب عقولهم وترك أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب‏.

‏‏ فجماع هذا‏:‏ أن هذه الأمور تعطى حقها من الكتاب والسنة‏.

‏‏ فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر، والأمر والنهي وجب إتباعه، ولم يلتفت إلى من خالفه كائناً من كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك كائناً من كان، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من اتباع الرسول وطاعته، وإن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة بأن يكون مسلوب العقل، أو ساقط التمييز أو مجتهداً مخطئاً اجتهاداً قولياً أو عملياً، أو مغلوباً على ذلك الفعل أو الترك بحيث لا يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بلا ذنب فعله، ولا يمكنه أداء ذلك الواجب بلا ذنب فعله، ويكون هذا الباب نوعه محفوظاً بحيث لا يتبع ما خالف الكتاب والسنة ولا يجعل ذلك شرعة ولا منهاجاً، بل لا سبيل إلى الله ولا شرعة إلا ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما الأشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيعذرون، ولا يذمون، ولا يعاقبون‏.

‏‏ فإن كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.

‏‏ وما من الأئمة إلا من له أقوال، وأفعال لا يتبع عليها، مع أنه لا يذم عليها، وأما الأقوال والأفعال التي لم يعلم قطعاً مخالفتها للكتاب والسنة، بل هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها؛ لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم، فيلتحق من وجه بالقسم الأول‏.

‏‏ ومن وجه بالقسم الثاني‏.

‏‏ وقد تكون اجتهادية عنده أيضاً، فهذه تسلم لكل مجتهد، ومن قلده طريقهم تسليماً نوعيا، بحيث لا ينكر ذلك عليهم، كما سلم في القسم الأول تسليماً شخصياً‏.

‏‏ وأما الذي لا يسلم إليه حاله‏:‏ فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم، ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي، واليونسية فيما يأتونه من المحرمات، ويتركونه من الواجبات، أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في وجده ليظن به خيراً، ويرفع عنه الملام فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه أن الحق قد تبين له، وأنه متبع لهواه، أو يعرف منه تجويز الانحراف عن موجب الشريعة المحمدية، وأنه قد يتفوه بما يخالفها، وأن من الرجال من قد يستغنى عن الرسول أو له أن يخالفه، أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين، كما يحكى بعض الكذابين الضالين‏:‏ أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار لما انهزم أصحابه وقالوا‏:‏ نحن مع الله، من غلب كنا معه، وأنه صبيحة الإسراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة وأنه تواجد في السماء، حتى وقع الرداء عنه، وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر، أو يسوغ لأحد بعد محمد الخروج عن شريعته، كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى، فإنه لم يكن مبعوثاً إليه كما بعث محمد إلى الناس كافة‏.

‏‏ فهؤلاء ونحوهم ممن يخالف الشريعة، ويبين له الحق فيعرض عنه، يجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب‏.‏

وكذلك أيضاً ينكر علي من اتبع الأولين المعذورين في أقوالهم، وأفعالهم المخالفة للشرع، فإن العذر الذي قام بهم منتف في حقه فلا وجه لمتابعته فيه‏.

‏‏ ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو‏:‏ توقف فيه، فإن الإمام إن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة، لكن لا يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏"‏‏‏.

‏‏ فلا يسوغ الخروج عن موجب العموم والإطلاق في الكتاب والسنة بالشبهات، ولا يسوغ الذم والعقوبة بالشبهات، ولا يسوغ جعل الشيء حقاً، أو باطلاً أو صواباً، أو خطأ بالشبهات، والله يهدينا الصراط المستقيم‏:‏ صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏.

‏‏ وبقيت هنا المسألة التي تشتبه غالباً، وهو أن يظهر من بعض الرجال المجهول الحال، أمر مخالف للشرع في الظاهر، ويجوز أن يكون معذوراً فيه عذراً شرعياً‏.

‏‏ مثل وجد خرج فيه عن الشرع، لا يدري أهو صادق فيه أم متصنع، وأخذ مال بغير إذن صاحبه في الظاهر، مع تجويز أن يكون علم طيب قلب صاحبه به، فهذا إن قيل‏:‏ ينكر عليه جاز أن يكون معذوراً، وإن قيل‏:‏ لا ينكر عليه لزم إقرار المجهولين على مخالفة الشرع في الظاهر، فالواجب في مثل هذا أن يخاطب صاحبه أولا برفق، ويقال له‏:‏ هذا في الظاهر منكر، وأما في الباطن، فأنت أمين الله على نفسك، فأخبرنا بحالك فيه أولا تظهره حيث يكون إظهاره فتنة، وتسلك في ذلك طريقة لا تفضي إلى إقرار المنكرات، ولا لوم البرآء‏.‏

والضابط أن من عرف من عادته الصدق، والأمانة أقر على ما لم يعلم أنه كذب وحرام، ومن عرف منه الكذب أو الخيانة، لم يقر على المجهول، وأما المجهول فيتوقف فيه‏.‏

وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، بقية السلف الكرام، العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني قدس الله روحه، ونور ضريحه، وأسكنه فسيح الجنان ‏:‏

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.

‏‏ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده و رسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله و كفى بالله شهيداً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله مخلصاً حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.