تفسير آية الكرسي

السؤال: نرجو من الشيخ أن يُفسِّر لنا آية الكرسي؟

الإجابة

الإجابة: يقول الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، فيثني على نفسه جلَّ جلاله بما هو أهله من الصفات العلى والأسماء الحسنى، فيقول: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فينفي الألوهية عن غيره ويثبت الألوهية لنفسه، وهذا يقتضي أنه وحده الذي يستحق العبادة ويستحق الدعاء ويستحق التوكل، وأنه لا أحد سواه يستحق شيئاً من ذلك، {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أثنى على نفسه بصفتين عظيمتين: إحداهما الحياة الدائمة التي لا انقطاع لها، ولم يسبقها عدم ولا يلحقها عدم، وهذا يقتضي الأولية والآخرية، فهو الأول الذي لم يسبقه شيء وهو الآخر الذي لا يعقبه شيء جل جلاله، والصفة الثانية: هي القيّومية، أي التدبير، فهو مدبر شأن الكون كله، لا تنبت ورقة ولا تسقط إلا بإذنه وأمره، ولا يرزق أحد بخلق ولا برزق ولا بتنفس ولا حركة ولا هداية إلا بأمر الله وتدبيره، فهو قيوم السموات والأرض، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} أي لا يمكن أن ينام، ولا ينبغي له أن ينام، فالنوم يُنقص القيّومية على السماوات والأرض، والله جل جلاله يستحيل في حقه كل نقص ومنه النوم ومنه السِنة أي النعاس، فإنه لا يأخذه شيء من ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يُرفع إليه أمر الليل قبل النهار وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور -وفي رواية حجابه النار- لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه"، {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، بيَّن أن كل ما في السماوات والأرض ملك له سبحانه وتعالى يتصرف فيه، لا معقب لحكمه في شيء من ذلك، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي أنه لا ند له ولا ظهير ولا معين في السموات ولا في الأرض، فلا يُمكن أن يرحم إلا من رحمه الله ولا أن يُعذب إلا من عذبه الله، ولا يُمكن أن يشفع أحد لأحد عنده إلا بإذنه، فهو لا يأذن في الشفاعة إلا لمن ارتضى، فلذلك قال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، أي من بعد إذنه، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أثنى على نفسه بصفة العلم، وهذا العلم شامل للكليات والجزئيات، فهو {يعلم ما بين أيديهم}: أي ما سيحصل في مستقبل الزمان، {وما خلفهم}: أي ما مضى في ماضي الزمان، فكل ذلك حاضر لديه لا يغيب عنه شيء منه جل جلاله، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} أي لا يصل إلى المخلوقات شيء من العلم إلا ما أوصل الله إليهم فالعلم من رزق الله، فهو يرزق من شاء من العلم ما شاء، ولا يمكن أن يعلم أحد علماً ولو تعلق بذاته أو بأهله إلا ما علمه الله سبحانه وتعالى، فيحجب عنه ما شاء ويريه ما شاء، فلذلك قال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}، ويدخل في ذلك ذات الله وصفاته، ويدخل فيه الغيب مطلقاً، فالمغيبات التي أحاط الله بها علماً لا يمكن أن يطلع أحد على شيء منها إلا من أطلعه الله على بعضها، فلذلك قال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} وما شاء هو ما أطلع عليه من شاء من خلقه كالملائكة الذين يطلعهم على بعض الغيوب النسبية، وكالرسل الذين يجري على أيديهم المعجزات التي منها الإخبار عن المغيبات ليعلم أن قد أبلغوا رسالاته سبحانه وتعالى كما قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ}، وفي القراءة الأخرى: {لِيُعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي ليعلم السامع أو الرائي أن قد أبغلوا رسالات ربهم، أي ليُعلم ذلك فيعلمه الناس فيحذف المفعول هنا، سواء نسب الفعل إلى فاعله وأبهم ذلك الفاعل، أو حذف الفاعل وأسند الفعل إلى المفعول، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أثنى على نفسه بسعة كرسيه جل جلاله، فكرسيه جل جلاله أحاط بالسماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهن، والكرسي دون العرش، وهو من العرش موضع القدمين منه، وهذا الكرسي هو كرسي الله جل جلاله وهو عظيم جداً، وقد جاء في وصفه عدد من الأحاديث، فيها أن السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم في ترس، مثل دراهم في ترس كبير، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، وعرش الله سبحانه وتعالى فوق الكرسي وهو محيط بكل ذلك وهو سقف الفردوس الأعلى من الجنة، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يُثقله حفظ السماوات والأرض، والله سبحانه وتعالى هو الذي يمسكهما أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، ولذلك يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه جل جلاله، {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يثقله ولا يعجزه حفظهما أي حفظ السموات والأرض وكذلك كل ما بينهما وما فيهما، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أثبت لنفسه صفة العلو وهو الارتفاع، فهو سبحانه وتعالى العليّ، وهو مع ذلك محيط بجميع الخلائق فهو العليم في علوه، وهو كذلك العليّ في دنوه، فهو قريب في علوه، وهو عليّ في دنوه، فهو على علوه محيط بجميع الكائنات لا تحجب عنه سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضاً ولا جبلٌ ما في وعره، ولا بحرٌ ما في قعره، وهو كذلك قريبٌ من الداعين، وهو قريبٌ من عبده فهو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو مطلع على خطرات قلبه وما توسوس به نفسه، فكل ذلك من كماله جل جلاله، ولذلك قال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ثم وصف نفسه بالعظمة، وهي صفة من صفاته جل جلاله فهو العظيم، وهذه العظمة لا يمكن أن ينال لها حد فإنه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} فكل الكائنات هي من تدبيره وخلقه وتصويره وتقديره، ولا يمكن أن يحيط شيء منها بكنهه جل جلاله، فالعرش هو من خلقه، وهو جل جلاله المدبر لشأنه وهو القيوم عليه، فلا يمكن أن يستقر العرش لحظة إلا بأمره فكيف بما دونه من الخلائق فكل ذلك بأمر الله جل جلاله، وهو غني عن العرش وما دونه من الخلائق لا يحتاج إلى شيء من خلقه، فهو على ما عليه كان قبل خلق الكون كله.



نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.