تفسير قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام}

السؤال: تفسير قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام}

الإجابة

الإجابة: قال شيخ الإِسلاَم رَحِمهُ الله ‏:‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‏} ‏[‏البقرة‏:‏217‏]‏ من باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه، فلم قدّم الشهر وقد قلتم‏:‏ إنهم يقدمون ما بيانه أهم وهم به أعنى‏؟‏ قيل‏:‏ السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال فى الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم انتهاكه وانتهاك حرمته، وكان اهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال، فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر، فلذلك قدم فى الذِّكْر، وكان تقديمه مطابقا لما ذكرنا من القاعدة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما الفائدة فى إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر، وهلا اكتفى بضميره فقال‏:‏ هو كبير‏؟‏ وأنت إذا قلت‏:‏ سألته عن زيد هو فى الدار كان أوجز من أن تقول‏:‏ أزيد فى الدار‏؟‏

قيل‏:‏ فى إعادته بلفظ الظاهر بلاغة بديعة، وهو تعليق الحكم الخبرى باسم القتال فيه عموماً، ولو أتى بالمضمر فقال‏:‏ هو كبير، لتَوَهَّم اختصاص الحكم بذلك القتال المسئول عنه‏.

‏‏ وليس الأمر كذلك؛ وإنما هو عام فى كل قتال وقع فى شهر حرام‏.

‏‏ ونظير هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال "هو الطَّهُور ماؤه"‏‏، فأعاد لفظ الماء ولم يقتصر على قوله "نعم توضؤوا به‏"‏‏؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص فعدل عن قوله‏ "‏‏نعم توضؤوا‏"‏‏إلى جواب عام يقتضى تعليق الحكم والطهور به بنفس مائه من حيث هو، فأفاد استمرار الحكم على الدوام، وتعلقه بعموم الأمة، وبطل توهم قصره على السبب، فتأمله فإنه بديع‏.

‏‏ فكذلك فى الآية لما قال‏:‏ ‏{‏‏قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}‏‏، فجعل الخبر ب ‏{‏كَبِيرٌ‏}‏ واقعا عن ‏{‏‏قِتَالٌ فِيهِ‏} فيتعلق الحكم به على العموم، ولفظ ‏(‏المضمر‏)‏ لا يقتضى ذلك‏.

‏‏ وقريب من هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين‏} ‏[‏الأعراف‏:‏170‏]‏ ولم يقل‏:‏ أجرهم، تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين، وليس فى الضمير ما يدل على الوصف المذكور‏.

‏‏ وقريب منه وهو ألطف منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، ولم يقل فيه تعليقاً بحكم الاعتزال بنفس الحيض، وأنه هو سبب الاعتزال، وقال‏:‏ ‏{‏‏قُلْ هُوَ أَذًى}‏‏ ولم يقل‏:‏ ‏(‏المحيض أذى‏)‏ لأنه جاء به على الأصل،ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات، وكان ذكره بلفظ الظاهر فى الأمر بالاعتزال أحسن من ذكره مضمرا ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضا، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏‏قُلْ هُوَ أَذًى‏} فإنه إخبار بالواقع، والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضاً، بخلاف تعليق الحكم به، فإنه إنما يعلم بالشرع، فتأمله.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الرابع عشر.