مقارنة حال يوسف بحال محمد صلى الله عليهما وسلم

السؤال: فصـل في مقارنة حال يوسف عليه السلام بحال محمد صلى الله عليه وسلم

الإجابة

الإجابة:

واختيار النبي صلى الله عليه وسلم له ولأهله الاحتباس في شعب بني هاشم بضع سنين، لا يبَايعُون ولا يشَارون؛ وصبيانهم يتَضَاغُون من الجوع، قد هجرهم وقَلاهُم قومهم، وغير قومهم‏.‏

هذا أكمل من حال يوسف عليه السلام‏.
‏‏
فإن هؤلاء كانوا يدعون الرسول إلى الشرك، وأن يقول على اللّه غير الحق‏.‏

يقول‏:‏ ما أرسلني ولا نهي عن الشرك، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً‏} ‏[‏الإسراء‏:‏ 73 77‏]‏‏.
‏‏
وكان كذب هؤلاء على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف؛ فإنهم قالوا‏:‏إنه ساحر، وإنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه مُفْتَر‏.‏
وكل واحدة من هؤلاء أعظم من الزنا والقذف؛ لا سيما الزنا المستور الذي لا يدري به أحد‏.
‏‏ فإن يوسف كذب عليه في أنه زني، وأنه قذفها وأشاع عنها الفاحشة؛ فكان الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على يوسف‏.

وكذلك الكذب على أولي العزم، مثل نوح وموسي، حيث يقال عن الواحد منهم‏:‏ إنه مجنون، وإنه كَذَّاب، يكذب على اللّه، وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أذى المشركين أعظم من مجرد الحبس، فإن يوسف حُبِسَ وسُكِت عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يؤذون بالأقوال والأفعال مع منعهم من تصرفاتهم المعتادة‏.

وهذا معنى الحبس، فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه في السجن، بل المراد منعه من التصرف المعتاد‏.
‏‏
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له حبس، ولا لأبي بكر، بل أول من اتخذ السجن عمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسَلِّمُ الغريم إلى غريمه، ويقول"ما فعل أسيرك‏؟‏‏"‏‏، فيجعله أسيراً معه، حتى يقضيه حقه، وهذا هو المطلوب من الحبس‏.‏

والصحابة رضي اللّه عنهم منعوهم من التصرف بمكة أذى لهم، حتى خرج كثير منهم إلى أرض الحبشة، فاختاروا السكنى بين أولئك النصارى عند ملك عادل على السكنى بين قومهم، والباقون أُخرجوا من ديارهم وأموالهم أيضاً مع ما آذوهم به، حتى قتلوا بعضهم، وكانوا يضربون بعضهم ويمنعون بعضهم ما يحتاج إليه، ويضعون الصخرة على بطن أحدهم في رَمْضَاء ‏[‏الرَّمْضَاء‏:‏ الحجارة الحامية من حر الشمس‏]‏ مكة، إلى غير ذلك من أنواع الأذي‏.
‏‏
وكذلك المؤمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يختار الأذى في طاعة اللّه على الإكرام مع معصيته، كأحمد بن حنبل اختار القيد والحبس والضرب على موافقة السلطان وجنده، على أن يقول على اللّه غير الحق في كلامه، وعلى أن يقول ما لا يعلم أيضاً فإنهم كانوا يأتون بكلام يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو باطل، وبكلام مجمل يحتاج إلى تفسير، فيقول لهم الإمام أحمد‏:‏ ما أدري ما هذا‏؟‏ فلم يوافقهم على أن يقول على اللّه غير الحق، ولا على أن يقول على اللّه ما لا يعلم‏.‏





مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.