فصل فيمن خالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

السؤال: فصل فيمن خالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

الإجابة

الإجابة: فصل:

وكل من خالف ما جاء به الرسول لم يكن عنده علم بذلك ولا عدل، بل لا يكون عنده إلا جهل وظلم وظن ‏{‏‏وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏ وذلك لأن ما أخبر به الرسول فهو حق باطناً وظاهراً، فلا يمكن أن يتصور أن يكون الحق في نقيضه، وحينئذ فمن اعتقد نقيضه كان اعتقاده باطلاً، والاعتقاد الباطل لا يكون علماً، وما أمر به الرسول فهو عدل لا ظلم فيه، فمن نهى عنه فقد نهى عن العدل، ومن أمر بضده فقد أمر بالظلم؛ فإن ضد العدل الظلم، فلا يكون ما يخالفه إلا جهلاً وظلماً ظناً وما تهوى الأنفس، وهو لا يخرج عن قسمين، أحسنهما أن يكون كان شرعاً لبعض الأنبياء ثم نسخ، وأدناهما أن يكون ما شرع قط، بل يكون من المبدل، فكل ما خالف حكم اللّه ورسوله، فإما شرع منسوخ وإما شرع مبدل ما شرعه اللّه، بل شرعه شارع بغير إذن من اللّه، كما قال‏:‏‏{‏‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏‏ ‏[‏الشورى‏:‏21‏]‏، لكن هذا وهذا قد يقعان في خفي الأمور ودقيقها باجتهاد من أصحابها استفرغوا فيه وُسْعَهم في طلب الحق، ويكون لهم من الصواب والإتباع ما يغمر ذلك، كما وقع مثل ذلك من بعض الصحابة في مسائل الطلاق والفرائض ونحو ذلك، ولم يكن منهم مثل هذا في جلي الأمور وجليلها؛ لأن بيان هذا من الرسول كان ظاهراً بينهم فلا يخالفه إلا من يخالف الرسول، وهم معتصمون بحبل اللّه يحكمون الرسول فيما شجر بينهم، لا يتقدمون بين يدي اللّه ورسوله، فضلا عن تعمد مخالفة اللّه ورسوله‏.

‏‏ فلما طال الزمان، خفي على كثير من الناس ما كان ظاهراً لهم، ودَقَّ على كثير من الناس ما كان جلياً لهم، فكثر من المتأخرين مخالفة الكتاب والسنة ما لم يكن مثل هذا في السلف‏.‏

وإن كانوا مع هذا مجتهدين معذورين، يغفر اللّه لهم خطاياهم، و يثيبهم على اجتهادهم‏.

‏‏ وقد يكون لهم من الحسنات ما يكون للعامل منهم أجر خمسين رجلاً يعملها في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا يجدون من يعينهم على ذلك، وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا من يعينهم على ذلك، لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة، ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة؛ فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد، ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وتصديقه،وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته، وتظهر كلمته، وتكثر أعوانه وأنصاره، وتنتشر دلائل نبوته، بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين، وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل اللّه ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقى يحصل مثله لأحد، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم "لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه‏"‏‏‏.

‏‏ وقد استفاضت النصوص الصحيحة عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم "خير القرون قرْني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏‏‏.

‏‏ فجملة القرن الأول أفضل من القرن الثاني، والثاني أفضل من الثالث، والثالث أفضل من الرابع، لكن قد يكون في الرابع من هو أفضل من بعض الثالث، وكذلك في الثالث مع الثاني، وهل يكون فيمن بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة المفضولين لا الفاضلين‏؟‏ هذا فيه نزاع، وفيه قولان، حكاهما القاضي عياض وغيره‏.

‏‏ ومن الناس من يفرضها في مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز، فإن معاوية له مزية الصحبة والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر له مزية فضيلته من العدل والزهد، والخوف من اللّه تعالى، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

والمقصود هنا أن من خالف الرسول فلابد أن يتبع الظن وما تهوى الأنفس، كما قال تعالى في المشركين الذين يعبدون اللات والعزى‏:‏‏{‏‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏‏ ‏[‏النجم‏:‏23‏]‏‏.

‏‏ وقال في الذين يخبرون عن الملائكة أنهم إناث‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى‏}‏‏ ‏[‏النجم‏:‏27 30‏]‏، وهم جعلوهم إناثاً كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً‏}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏19‏]‏،وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏(‏عند الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون‏)‏،وهؤلاء قال عنهم‏:‏‏{‏‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ‏}‏‏ لأنه خبر مَحْض ليس فيه عمل، وهناك‏:‏‏{‏‏وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ‏}‏‏ لأنهم كانوا يعبدونها ويدعونها، فهناك عبادة وعمل بهوى أنفسهم، فقال‏:‏ ‏{‏‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ‏}‏‏ والذي جاء به الرسول كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى‏}‏‏ ‏[‏النجم‏:‏1 5‏]‏‏.‏ وكل من خالف الرسول لا يخرج عن الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن كان ممن يعتقد ما قاله، وله فيه حجة يستدل بها، كان غايته الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً،كاحتجاجهم بقياس فاسد، أو نقل كاذب، أو خطاب ألقى إليهم اعتقدوا أنه من اللّه وكان من إلقاء الشيطان‏.

‏‏ وهذه الثلاثة هي عمدة من يخالف السنة بما يراه حجة ودليلا، إما أن يحتج بأدلة عقلية ويظنها برهاناً وأدلة قطعية، وتكون شبهات فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة، ومعان متشابهة، لم يميز بين حقها وباطلها، كما يوجد مثل ذلك في جميع ما يحتج به من خالف الكتاب والسنة، إنما يركب حججه من ألفاظ متشابهة، فإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وهذه هي الحجج العقلية‏.

‏‏ وإن تمسك المبطل بحجج سمعية فإما أن تكون كذباً على الرسول، أو تكون غير دالة على ما احتج بها أهل البُطُول، فالمنع إما في الإسناد وإما في المتن ودلالته على ما ذكر، وهذه الحجة السمعية هذه حجة أهل العلم الظاهر‏.

‏‏ وأما حجة أهل الذوق والوَجْد والمكاشفة والمخاطبة، فإن أهل الحق من هؤلاء لهم إلهامات صحيحة مطابقة، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "‏‏قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُونَ، فإن يكن في أمتي أحد فَعُمَر‏"‏‏، وكان عمر يقول‏:‏ اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقُولون، فإنها تجلى لهم أمور صادقة‏.

‏‏ وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللّه"‏‏، ثم قرأ قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏‏ ‏[‏الحجر‏:‏75‏]‏، وقال بعض الصحابة‏:‏ أظنه واللّه للحق يقذفه اللّه على قلوبهم وأسماعهم، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها‏"‏‏ وفي رواية "فَبِي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي‏"، فقد أخبر أنه يسمع بالحق ويبصر به‏.‏

وكانوا يقولون‏:‏ إن السكينة تنطق على لسان عمر رضي اللّه عنه‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم "من سأل القضاء واستعان عليه وُكِلَ إليه، ومن لم يسأله ولم يستعن عليه أنزل اللّه عليه مَلَكا يسدده‏"‏‏، وقال اللّه تعالى‏:‏‏{‏‏نُّورٌ عَلَى نُورٍ‏}‏‏ ‏[‏النور‏:‏35‏]‏، نور الإيمان مع نور القرآن، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْه‏}‏‏ ‏[‏هود‏:‏17‏]‏، وهو المؤمن على بينة من ربه، ويتبعه شاهد من اللّه، وهو القرآن، شهد اللّه في القرآن بمثل ما عليه المؤمن من بينة الإيمان، وهذا القدر مما أقر به حُذَّاق النظار لما تكلموا في وجوب النظر وتحصيله للعلم، فقيل لهم‏:‏ أهل التصفية والرياضة والعبادة والتأله تحصل لهم المعارف والعلوم اليقينية بدون النظر، كما قال الشيخ الملقب بالكبيري للرازي ورفيقه، وقد قالا له‏:‏ يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين‏.‏

فقال‏:‏ نعم‏!‏ فقالا‏:‏ كيف تعلم ونحن نتناظر في زمان طويل كلما ذكر شيئاً أفسدته، وكلما ذكرت شيئاً أفسده‏؟‏ فقال‏:‏ هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، فجعلا يعجبان من ذلك ويكرران الكلام، وطلب أحدهما أن تحصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حتى حصلت له، وكان من المعتزلة النفاة‏.‏

فتبين له أن الحق مع أهل الإثبات، وأن الله سبحانه فوق سمواته، وعلم ذلك بالضرورة، رأيت هذه الحكاية بخط القاضي نجم الدين أحمد بن محمد بن خلف المقدسي، وذكر أن الشيخ الكبيري حكاها له، وكان قد حدثني بها عنه غير واحد حتى رأيتها بخطه، وكلام المشايخ في مثل هذا كثير، وهذا الوصف الذي ذكره الشيخ جواب لهم بحسب ما يعرفون، فإنهم قد قسموا العلم إلى ضروري ونظري، والنظري مستند إلى الضروري، والضروري هو العلم الذي يلزم نفس المخلوق لزوماً لا يمكنه معه الانفكاك عنه، هذا حد القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره‏‏.‏

فخاصته أنه يلزم النفس لزوماً لا يمكن مع ذلك دفعه، فقال لهم‏:‏ علم اليقين عندنا هو من هذا الجنس، وهو علم يلزم النفس لزوماً لا يمكنه مع ذلك الانفكاك عنه، وقال‏:‏ واردات؛ لأنه يحصل مع العلم طمأنينة وسكينة توجب العمل به، فالواردات تحصل بهذا وهذا، وهذا قد أقر به كثير من حذاق النظار، متقدميهم كالكيا الهراسي والغزالي وغيرهما ومتأخريهم كالرازي والآمدي وقالوا‏:‏ نحن لا ننكر أن يحصل لناس علم ضروري بما يحصل لنا بالنظر، هذا لا ندفعه، لكن إن لم يكن علماً ضرورياً فلابد له من دليل، والدليل يكون مستلزماً للمدلول عليه، بحيث يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول عليه‏‏.‏

‏ قالوا‏:‏ فإن كان لو دفع ذلك الاعتقاد الذي حصل له لزم دفع شئ مما يعلم بالضرورة، فهذا هو الدليل، وإن لم يكن كذلك فهذا هَوَس لا يلتفت إليه، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

‏ والمقصود أن هذا الجنس واقع، لكن يقع أيضاً ما يظن أنه منه كثير‏‏.‏

أو لا يميز كثير منهم الحق من الباطل، كما يقع في الأدلة العقلية والسمعية‏‏.‏

فمن هؤلاء من يسمع خطاباً أو يرى من يأمره بقضية ويكون ذلك الخطاب من الشيطان،ويكون ذلك الذي يخاطبه الشيطان وهو يحسب أنه من أولياء اللّه من رجال الغيب‏.‏

ورجال الغيب هم الجن، وهو يحسب أنه إنسي، وقد يقول له‏:‏أنا الخضر، أو إلياس‏‏.‏

‏ بل أنا محمد، أو إبراهيم الخليل أو المسيح، أو أبو بكر، أو عمر، أو أنا الشيخ فلان، أو الشيخ فلان ممن يحسن بهم الظن، وقد يطير به في الهواء، أو يأتيه بطعام أو شراب أو نفقة، فيظن هذا كرامة، بل آية ومعجزة تدل على أن هذا من رجال الغيب أو من الملائكة، ويكون ذلك شيطاناً لَبَّس عليه، فهذا ومثله واقع كثيراً، أعرف منه وقائع كثيرة، كما أعرف من الغلط في السمعيات والعقليات‏‏.‏

‏ فهؤلاء يتبعون ظناً لا يغني من الحق شيئاً، ولو لم يتقدموا بين يدي اللّه ورسوله، بل اعتصموا بالكتاب والسنة، لتبين لهم أن هذا من الشيطان، وكثير من هؤلاء يتبع ذوقه ووَجْده وما يجده محبوباً إليه بغير علم ولا هدى ولا بصيرة، فيكون متبعاً لهواه بلا ظن، وخيارهم من يتبع الظن وما تهوى الأنفس‏‏.

وهؤلاء إذا طلب من أحدهم حجة ذكر تقليده لمن يحبه من آبائه وأسلافه، كقول المشركين‏:{ ‏ ‏‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون‏‏}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏23‏]‏، وإن عكسوا احتجوا بالقدر، وهو أن اللّه أراد هذا وسلطنا عليه، فهم يعملون بهواهم وإرادة نفوسهم بحسب قدرتهم كالملوك المسلطين، وكان الواجب عليهم أن يعملوا بما أمر اللّه، فيتبعون أمر اللّه وما يحبه ويرضاه، لا يتبعون إرادتهم وما يحبونه هم ويرضونه، وأن يستعينوا باللّه، فيقولون‏:‏{ ‏‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏‏ }‏‏ [‏الفاتحة‏:‏5‏]‏، لا حول ولا قوة إلا باللّه، لا يعتمدون على ما أوتوه من القوة والتصرف والحال؛ فإن هذا من الجَدّ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عقب الصلاة وفي الاعتدال بعد الركوع "اللّهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ‏"‏‏‏.‏

فالذوق والوَجْد هو يرجع إلى حب الإنسان ووجده بحلاوته وذوقه وطعمه، وكل صاحب محبة فله في محبوبه ذوق ووجد، فإن لم يكن ذلك بسلطان من اللّه وهو ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم كان صاحبه متبعاً لهواه بغير هدى، وقد قال اللّه تعالى‏:‏‏‏ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْر هُدًى مِّنَ اللَّهِ‏ }‏‏ [‏القصص‏:‏50‏]‏، وقال تعالى‏:{ ‏مَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ‏‏}‏‏ [‏الأنعام‏:‏119‏]‏‏‏.‏

‏ وكذلك من اتبع ما يرد عليه من الخطاب أو ما يراه من الأنوار والأشخاص الغيبية، ولا يعتبر ذلك بالكتاب والسنة، فإنما يتبع ظناً لا يغني من الحق شيئاً‏‏.‏

فليس في المحدثين الملهمين أفضل من عمر، كما قال صلى الله عليه وسلم "إنه قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فَعُمَر منهم‏"‏، وقد وافق عمر ربه في عدة أشياء، ومع هذا فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول، ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول، ولا يتقدم بين يدي اللّه ورسوله، بل يجعل ما ورد عليه إذا تبين له من ذلك أشياء خلاف ما وقع له فيرجع إلى السنة، وكان أبو بكر يبين له أشياء خفيت عليه، فيرجع إلى بيان الصديق وإرشاده وتعليمه، كما جرى يوم الحديبية، ويوم مات الرسول، ويوم ناظره في مانعي الزكاة وغير ذلك، وكانت المرأة ترد عليه ما يقوله وتذكر الحجة من القرآن، فيرجع إليها؛ كما جري في مهور النساء، ومثل هذا كثير‏.‏

فكل من كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة، تبعاً لما جاء به الرسول، لا يجعل ما جاء به الرسول تبعاً لما ورد عليه، وهؤلاء الذين أخطئوا وضلوا وتركوا ذلك واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول‏‏.‏

‏ وصار أحدهم يقول‏:‏ أخذوا علمهم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، فيقال له‏:‏ أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق، ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين، وإما من اليهود والنصارى، وأما ما ورد عليك فمن أين لك أنه وحي من اللّه‏؟‏ ومن أين لك أنه ليس من وحي الشيطان‏؟‏ والوحي وحيان‏:‏ وحي من الرحمن، ووحي من الشيطان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ‏‏}‏‏ ‏ ‏[‏الأنعام‏:‏121‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{ ‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏112‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221‏]‏، وقد كان المختار بن أبي عبيد من هذا الضرب، حتى قيل لابن عمر وابن عباس، قيل لأحدهما‏:‏ إنه يقول‏:‏ إنه يوحى إليه، فقال‏:‏ ‏‏{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ‏}‏‏ وقيل للآخر‏:‏ إنه يقول‏:‏ إنه ينزل عليه، فقال‏:‏{‏ ‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ‏‏}‏‏.‏

‏ فهؤلاء يحتاجون إلى الفرقان الإيماني القرآني النبوي الشرعي أعظم من حاجة غيرهم، وهؤلاء لهم حسيات يرونها ويسمعونها، والحسيات يضطر إليها الإنسان بغير اختياره، كما قد يرى الإنسان أشياء ويسمع أشياء بغير اختياره، كما أن النظار لهم قياس ومعقول، وأهل السمع لهم أخبار منقولات، وهذه الأنواع الثلاثة هي طرق العلم‏:‏ الحس والخبر والنظر، وكل إنسان يستدل من هذه الثلاثة في بعض الأمور، لكن يكون بعض الأنواع أغلب على بعض الناس في الدين وغير الدين، كالطب فإنه تجربات وقياسات، وأهله منهم من تغلب عليه التجربة ومنهم من يغلب عليه القياس، والقياس أصله التجربة، والتجربة لابد فيها من قياس، لكن مثل قياس العاديات لا تعرف فيه العلة والمناسبة، وصاحب القياس من يستخرج العلة المناسبة ويعلق الحكم بها، والعقل خاصة القياس والاعتبار والقضايا الكلية، فلا بد له من الحسيات التي هي الأصل ليعتبر بها، والحس إن لم يكن مع صاحبه عقل وإلا فقد يغلط‏‏.‏

‏ والناس يقولون‏:‏ غلط الحس‏‏.

‏ والغلط تارة من الحس، وتارة من صاحبه؛ فإن الحس يرى أمراً معيناً، فيظن صاحبه فيه شيئاً آخر فيؤتي من ظنه، فلابد له من العقل‏‏.‏

ولهذا؛ النائم يرى شيئاً وتلك الأمور لها وجود وتحقيق، ولكن هي خيالات وأمثلة، فلما عَزَب ‏[‏أي‏:‏غاب وخفى‏.‏ انظر‏:‏ المصباح المنير، مادة‏:‏عزب‏]‏ ظنها الرائي نفس الحقائق كالذي يرى نفسه في مكان آخر يكلم أمواتاً ويكلمونه، ويفعل أموراً كثيرة وهو في النوم، يجزم بأنه نفسه الذي يقول ويفعل؛ لأن عقله عزب عنه، وتلك الصورة التي رآها مثال صورته وخيالها؛ لكن غاب عقله عن نفسه، حتى ظن أن ذلك المثال هو نفسه، فلما ثاب إليه عقله علم أن ذلك خيالات ومثالات، ومن الناس من لا يغيب عقله بل يعلم في المنام أن ذلك في المنام، وهذا كالذي يرى صورته في المرآة أو صورة غيره، فإذا كان ضعيف العقل ظن أن تلك الصورة هي الشخص، حتى إنه يفعل به ما يفعل بالشخص‏.‏

وهذا يقع للصبيان والبُلْه، كما يخيل لأحدهم في الضوء شخص يتحرك ويصعد وينزل، فيظنونه شخصاً حقيقة، ولا يعلمون أنه خيال، فالحس إذا أحس حساً صحيحاً لم يغلط، لكن معه عقل لم يميز بين هذا العين والمثال؛ فإن العقل قد عقل قبل ذا أن مثل هذا يكون مثالاً، وقد عقل لوازم الشخص بعينه، وأنه لا يكون في الهواء ولا في المرآة، ولا يكون بدنه في غير مكانه، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين‏.‏

‏ وهؤلاء الذين لهم مكاشفات ومخاطبات يرون ويسمعون ما له وجود في الخارج، وما لا يكون موجوداً إلا في أنفسهم كحال النائم، وهذا يعرفه كل أحد، ولكن قد يرون في الخارج أشخاصاً يرونها عياناً، وما في خيال الإنسان لا يراه غيره و يخاطبهم أولئك الأشخاص، ويحملونهم ويذهبون بهم إلى عرفات فيقفون بها، وإما إلى غير عرفات، ويأتونهم بذهب وفضة، وطعام ولباس، وسلاح وغير ذلك، ويخرجون إلى الناس ويأتونهم أيضاً بمن يطلبونه، مثل من يكون له إرادة في امرأة أو صبي، فيأتونه بذلك إما محمولاً في الهواء وإما بسعي شديد، ويخبر أنه وجد في نفسه من الباعث القوي ما لم يمكنه المقام معه أو يخبر أنه سمع خطاباً، وقد يقتلون له من يريد قتله من أعدائه أو يمرضونه‏.‏

فهذا كله موجود كثيراً، لكن من الناس من يعلم أن هذا من الشيطان، وأنه من السحر، وأن ذلك حصل بما قاله وعمله من السحر‏‏.‏

ومنهم من يعلم أن ذلك من الجن، ويقول‏:‏ هذا كرامة أكرمنا بتسخير الجن لنا، ومنهم من لا يظن أولئك الأشخاص إلا آدميين أو ملائكة، فإن كانوا غير معروفين قال‏:‏ هؤلاء رجال الغيب، وإن تسموا فقالوا‏:‏ هذا هو الخضر، وهذا هو إلياس، وهذا هو أبو بكر وعمر، وهذا هو الشيخ عبد القادر أو الشيخ عدي أو الشيخ أحمد الرفاعي أو غير ذلك، ظن أن الأمر كذلك‏.

‏‏ فهنا لم يغلط لكن غلط عقله حيث لم يعرف أن هذه شياطين تمثلت على صور هؤلاء، وكثير من هؤلاء يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أو غيره من الأنبياء أو الصالحين يأتيه في اليقظة، ومن يرى ذلك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو الشيخ وهو صادق في أنه إياه من قال‏:‏ إنه النبي، أو الشيخ، أو قيل له ذلك فيه، لكن غلط حيث ظن صدق أولئك‏.

‏‏ والذي له عقل وعلم يعلم أن هذا ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم، تارة لما يراه منهم من مخالفة الشرع، مثل أن يأمروه بما يخالف أمر اللّه ورسوله، وتارة يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يأتي أحداً من أصحابه بعد موته في اليقظة، ولا كان يخاطبهم من قبره، فكيف يكون هذا لي، وتارة يعلم أن الميت لم يقم من قبره، وأن روحه في الجنة لا تصير في الدنيا هكذا‏.

‏‏ وهذا يقع كثيراً لكثير من هؤلاء، ويسمون تلك الصورة رقيقة فلان، وقد يقولون‏:‏ هو معناه تَشَكّل، وقد يقولون‏:‏ روحانيته‏.

‏‏ ومن هؤلاء من يقول‏:‏ إذا مت فلا تدعوا أحداً يغسلني ولا فلاناً يحضرني، فإني أنا أغسل نفسي، فإذا مات رأوه قد جاء وغسل ذلك البدن، ويكون ذلك جِنِّيّاً قد قال لهذا الميت‏:‏ إنك تجىء بعد الموت، واعتقد ذلك حقاً؛ فإنه كان في حياته يقول له أموراً، وغرض الشيطان أن يضل أصحابه، وأما بلاد المشركين كالهند فهذا كثيراً ما يرون الميت بعد موته جاء وفتح حانوته، ورد ودائع وقضى ديوناً، ودخل إلى منزله ثم ذهب، وهم لا يَشُكُّون أنه الشخص نفسه، وإنما هو شيطان تصور في صورته‏.

‏‏ ومن هؤلاء من يكون في جنازة أبيه أو غيره، والميت على سريره، وهو يراه آخذاً يمشي مع الناس بيد ابنه وأبيه قد جعل شيخاً بعد أبيه، فلا يشك ابنه أن أباه نفسه هو كان الماشي معه الذي رآه هو دون غيره، وإنما كان شيطاناً، ويكون مثل هذا الشيطان قد سمي نفسه خالداً وغير خالد، وقال لهم‏:‏ إنه من رجال الغيب، وهم يعتقدون أنه من الإنس الصالحين،ويسمونه خالداً الغيبي،وينسبون الشيخ إليه فيقولون‏:‏ محمد الخالدي ونحو ذلك‏.‏

فإن الجن مأمورون ومنهيون كالإنس، وقد بعث اللّه الرسل من الإنس إليهم وإلى الإنس، وأمر الجميع بطاعة الرسل، كما قال تعالى‏:‏{‏ ‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ‏ ‏} [‏ الأنعام‏:‏130‏]‏، وهذا بعد قوله‏‏:‏{‏ ‏‏وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ‏}‏[‏الأنعام‏:‏128‏]‏‏.

‏‏ قال غير واحد من السلف‏:‏ أي كثير من أغويتم من الإنس وأضللتموهم‏.

‏‏ قال البغوي‏:‏ قال بعضهم‏:‏ استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون لهم من الأراجيف، والسحر، والكهانة، وتزيينهم لهم الأمور التي يهيئونها ويسهل سبيلها عليهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي‏.

‏‏ قال محمد بن كعب‏:‏ هو طاعة بعضهم لبعض، وموافقة بعضهم بعضاً، وذكر ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال‏:‏ ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس، وعن محمد بن كعب قال‏:‏ هو الصِّحابة في الدنيا، وقال ابن السائب‏:‏ استمتاع الإنس بالجن استعاذتهم بهم، واستمتاع الجن بالإنس أن قالوا‏:‏ قد أسرنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا، فيزدادون شرفاً في أنفسهم، وعظماً في نفوسهم، وهذا كقوله‏‏‏:‏{‏ ‏‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً‏ ‏} [‏الجن‏:‏ 6‏]‏‏.

‏‏ قلت‏:‏ الاستمتاع بالشيء‏:‏هو أن يتمتع به، فينال به ما يطلبه ويريده ويهواه، ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء بعضهم ببعض كما قال‏‏:‏{ ‏‏فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةًّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏24‏]‏‏.‏

ومن ذلك الفواحش، كاستمتاع الذكور بالذكور والإناث بالإناث‏.

‏‏ ويدخل في هذا‏:‏الاستمتاع بالاستخدام وأئمة الرياسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم ومماليكهم، ويدخل في ذلك‏:‏ الاستمتاع بالأموال كاللباس، ومنه قوله‏‏:‏{ ‏‏وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ‏}‏[‏البقرة‏:‏236‏]‏ وكان من السلف من يمتع المرأة بخادم فهي تستمتع بخدمته، ومنهم من يمتع بكسوة أو نفقة؛ ولهذا قال الفقهاء‏:‏ أعلى المتعة خادم، وأدناها كسوة تجزي فيها الصلاة‏.

‏‏ وفي الجملة، استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس يشبه استمتاع الإنس بالإنس، قال تعالى‏‏‏:‏{‏‏ ‏الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ‏}‏[‏الزخرف‏:‏67‏]‏، وقال تعالى‏‏:‏{‏ ‏‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب‏}‏[‏البقرة‏:‏166‏]‏، وقال مجاهد‏:‏ هي المودَّات التي كانت لغير اللّه، وقال الخليل‏‏:‏{‏ ‏إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً‏} ‏[‏العنكبوت‏:‏25‏]‏، وقال تعالى‏‏‏:‏{‏ ‏‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏[‏الجاثية‏:‏23‏]‏ فالمشرك يعبد ما يهواه‏.‏

واتباع الهوى هو استمتاع من صاحبه بما يهواه‏.‏

وقد وقع في الإنس والجن هذا كله‏.‏

وتارة يخدم هؤلاء لهؤلاء في أغراضهم، وهؤلاء لهؤلاء في أغراضهم، فالجن تأتيه بما يريد من صورة أو مال أو قتل عدوه، والإنس تطيع الجن، فتارة تسجد له، وتارة تسجد لما يأمره بالسجود له، وتارة تمكنه من نفسه، فيفعل به الفاحشة، وكذلك الجنيات منهن من يريد من الإنس الذي يخدمنه ما يريد نساء الإنس من الرجال، وهذا كثير في رجال الجن ونسائهم، فكثير من رجالهم ينال من نساء الإنس ما يناله الإنسي، وقد يفعل ذلك بالذُّكْران‏.

‏‏ وصرع الجن للإنس هو لأسباب ثلاثة‏:‏ تارة يكون الجني يحب المصروع فيصرعه ليتمتع به، وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل‏.

‏‏ وتارة يكون الإنسي آذاهم إذا بال عليهم، أو صب عليهم ماء حاراً، أو يكون قتل بعضهم أو غير ذلك من أنواع الأذى، وهذا أشد الصرع، وكثيراً ما يقتلون المصروع‏.

‏‏ وتارة يكون بطريق العبث به كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل‏.

‏‏ ومن استمتاع الإنس بالجن‏:‏ استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة، كما يخبر الكهان، فإن في الإنس من له غرض في هذا؛ لما يحصل به من الرياسة والمال وغير ذلك، فإن كان القوم كفاراً كما كانت العرب لم تبال بأن يقال‏:‏ إنه كاهن كما كان بعض العرب كهاناً، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها كهان، وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى الكهان، وكان أبو أيرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم، وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن، بل يجعل ذلك من باب الكرامات، وهو من جنس الكهان، فإنه لا يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي، بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده، إما في شرك، وإما في فاحشة، وإما في أكل حرام، وإما في قتل نفس بغير حق‏.

‏‏ فالشياطين لهم غرض فيما نهى اللّه عنه من الكفر والفسوق والعصيان، ولهم لذة في الشر والفتن، يحبون ذلك وإن لم يكن فيه منفعة لهم، وهم يأمرون السارق أن يسرق، ويذهبون إلى أهل المال، فيقولون‏:‏ فلان سرق متاعكم؛ ولهذا يقال‏:‏ القوة الملَكِيَّة والبهيمية والسَّبْعِيَّة والشيطانية، فإن الملكية فيها العلم النافع والعمل الصالح‏.‏ والبهيمية فيها الشهوات كالأكل والشرب‏.

‏‏ والسبعية فيها الغضب وهو دفع المؤذي‏.‏

وأما الشيطانية فشَرٌّ مَحْض ليس فيها جلب منفعة ولا دفع مضرة‏.‏ والفلاسفة ونحوهم ممن لا يعرف الجن والشياطين لا يعرفون هذه، وإنما يعرفون الشهوة والغضب، والشهوة والغضب خلقا لمصلحة ومنفعة، لكن المذموم هو العدوان فيهما، وأما الشيطان فيأمر بالشر الذي لا منفعة فيه، ويحب ذلك، كما فعل إبليس بآدم لما وسوس له، وكما امتنع من السجود له، فالحسد يأمر به الشيطان، والحاسد لا ينتفع بزوال النعمة عن المحسود، لكن يبغض ذلك، وقد يكون بغضه لفوات غرضه، وقد لا يكون‏.

‏‏ ومن استمتاع الإنس بالجن‏:‏ استخدامهم في إحضار بعض ما يطلبونه من مال وطعام، وثياب ونفقة، فقد يأتون ببعض ذلك، وقد يدلونه على كنز وغيره، واستمتاع الجن بالإنس استعمالهم فيما يريده الشيطان من كفر وفسوق ومعصية‏.

‏‏ ومن استمتاع الإنس بالجن‏:‏ استخدامهم فيما يطلبه الإنس من شرك وقتل وفواحش، فتارة يتمثل الجني في صورة الإنسي، فإذا استغاث به بعض أتباعه أتاه فظن أنه الشيخ نفسه، وتارة يكون التابع قد نادى شيخه وهتف به‏:‏ يا سيدي فلان، فينقل الجني ذلك الكلام إلى الشيخ بمثل صوت الإنسي حتى يظن الشيخ أنه صوت الإنسي بعينه، ثم إن الشيخ يقول‏:‏ نعم‏!‏ ويشير إشارة يدفع بها ذلك المكروه، فيأتي الجني بمثل ذلك الصوت والفعل، فيظن ذلك الشخص أنه شيخه نفسه وهو الذي أجابه، وهو الذي فعل ذلك حتى إن تابع الشيخ قد يكون يده في إناء يأكل، فيضع الجني يده في صورة يد الشيخ ويأخذ من الطعام، فيظن ذلك التابع أنه شيخه حاضر معه، والجني يمثل للشيخ نفسه مثل ذلك الإناء، فيضع يده فيه حتى يظن الشيخ أن يده في ذلك الإناء، فإذا حضر المريد ذكر له الشيخ أن يدي كانت في الإناء فيصدقه، ويكون بينهما مسافة شهر، والشيخ موضعه، ويده لم تطل، ولكن الجني مثل للشيخ ومثل للمريد، حتى ظن كل منهما أن أحدهما عند الآخر، وإنما كان عنده ما مَثَّله الجني وخيله‏.

‏‏ وإذا سئل الشيخ المخدوم عن أمر غائب إما سرقة وإما شخص مات، وطلب منه أن يخبر بحاله، أو علة في النساء أو غير ذلك، فإن الجني قد يمثل ذلك فيريه صورة المسروق، فيقول الشيخ‏:‏ ذهب لكم كذا وكذا، ثم إن كان صاحب المال معظماً، وأراد أن يدله على سرقته، مثل له الشيخ الذي أخذه أو المكان الذي فيه المال فيذهبون إليه فيجدونه كما قال، والأكثر منهم أنهم يظهرون صورة المال ولا يكون عليه؛ لأن الذي سرق المال معه أيضاً جني يخدمه، والجن يخاف بعضهم من بعض كما أن الإنس يخاف بعضهم بعضاً، فإذا دل الجني عليه جاء إليه أولياء السارق فآذوه، وأحياناً لا يدل لكون السارق وأعوانه يخدمونه ويرشونه، كما يصيب من يعرف اللصوص من الإنس تارة يعرف السارق ولا يعرف به، إما لرغبة ينالها منه، وإما لرهبة وخوف منه، وإذا كان المال المسروق لكبير يخافه ويرجوه عرف سارقه‏.

‏‏ فهذا وأمثاله من استمتاع بعضهم ببعض‏.

‏‏ والجن مكلفون كتكليف الإنس، ومحمد صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الثقلين الجن والإنس، وكفار الجن يدخلون النار بالنصوص وإجماع المسلمين‏.

‏‏ وأما مؤمنوهم، ففيهم قولان، وأكثر العلماء على أنهم يثابون أيضاً ويدخلون الجنة، وقد روى أنهم يكونون في ربضها يراهم الإنس من حيث لا يرون الإنس عكس الحال في الدنيا، وهو حديث رواه الطبراني في معجمه الصغير يحتاج إلى النظر في إسناده‏.

‏‏ وقد احتج ابن أبي ليلى وأبو يوسف على ذلك بقوله تعالى‏‏‏‏:‏{‏‏ ‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا‏‏} ‏[‏الأنعام‏:‏132‏]‏، وقد ذكر الجن والإنس‏:‏ الأبرار والفجار في الأحقاف والأنعام‏.

‏‏ واحتج الأوزاعي وغيره بقوله تعالى‏‏‏:‏{ ‏لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ‏ ‏‏} [‏الرحمن‏:‏74‏]‏، وقد قال تعالى في الأحقاف‏‏‏‏:‏{‏ ‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا‏‏} ‏[‏ الآيتان‏:‏ 18-19‏]‏،وقد تقدم قبل هذا ذكر أهل الجنة، وقوله‏‏‏‏:‏{ ‏‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ‏ ‏‏} [‏الأحقاف‏:‏16‏]‏، ثم قال‏‏‏‏:‏{ ‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏‏}.

‏قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ درجات أهل الجنة تذهب علواً ودرجات أهل النار تذهب سفلا، وقد قال تعالى عن قول الجن‏‏‏:‏{ ‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً‏‏} ‏[‏ الجن‏:‏ 11‏]‏، وقالوا‏‏‏‏:‏{‏ ‏‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً‏‏} [‏الجن‏:‏14- 15‏]‏، ففيهم الكفار والفساق والعصاة، وفيهم من فيه عبادة ودين بنوع من قلة العلم كما في الإنس، وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس، فاليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، والمسلمون مع المسلمين، والفساق مع الفساق، وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع‏.

‏‏ واستخدام الإنس لهم مثل استخدام الإنس للإنس بشيء، منهم من يستخدمهم في المحرمات من الفواحش، والظلم، والشرك، والقول على اللّه بلا علم، وقد يظنون ذلك من كرامات الصالحين، وإنما هو من أفعال الشياطين‏.

‏‏ ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة،إما إحضار ماله،أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم،أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك،فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك‏.‏

والنوع الثالث‏:‏ أن يستعملهم في طاعة اللّه ورسوله، كما يستعمل الإنس في مثل ذلك، فيأمرهم بما أمر اللّه به ورسوله، وينهاهم عما نهاهم اللّه عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم، وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم وحال من اتبعه واقتدى به من أمته، وهم أفضل الخلق، فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم اللّه به ورسوله، وينهون الإنس والجن عما نهاهم اللّه عنه ورسوله؛ إذ كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثاً بذلك إلى الثقلين الإنس والجن، وقد قال اللّه له‏‏‏:‏{‏ ‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏‏} ‏ ‏[‏يوسف‏:‏108‏]‏، وقال‏‏‏‏:‏{ ‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏‏‏} ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏‏.‏

وعمر رضي اللّه عنه لما نادى‏:‏ يا سارية، الجبل، قال‏:‏ إن للّه جنوداً يبلغون صوتي، وجنود اللّه هم من الملائكة ومن صالحي الجن، فجنود اللّه بلغوا صوت عمر إلى سارية، وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر، وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة، وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه، فيقول‏:‏ يا فلان، فيعان على ذلك فيقول الواسطة بينهما‏:‏ يا فلان، وقد يقول لمن هو بعيد عنه‏:‏ يا فلان، احبس الماء، تعال إلينا، وهو لا يسمع صوته، فيناديه الواسطة بمثل ذلك‏:‏ يا فلان، احبس الماء، أرسل الماء، إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته، وإلا فلا يضر بأي صوت كان، إذا عرف أن صاحبه قد ناداه‏.

‏‏ وهذه حكاية‏:‏ كان عمر مرة قد أرسل جيشاً، فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش وشاع الخبر، فقال عمر‏:‏ من أين لكم هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ شخص صفته كيت وكيت فأخبرنا، فقال عمر‏:‏ ذاك أبو الهيثم بريد الجن، وسيجىء بريد الإنسان بعد ذلك بأيام‏.

‏‏ وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه فيخرج فيرى الناس يتحدثون به، فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس، والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان، لكن أعطى ملكاً لا ينبغي لأحد بعده، وسخرت له الإنس والجن، وهذا لم يحصل لغيره‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم لما تَفَلَّتَ عليه العفريت ليقطع عليه صلاته قال‏ ‏"‏فأخذته، فَذَعَتُّه حتى سال لعابه على يدي، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته‏"‏ ‏[‏ قوله‏:‏ ‏(‏فَذَعَتُّهُ‏)‏‏:‏ أي خنقته‏]‏‏.

‏‏ فلم يستخدم الجن أصلا، لكن دعاهم إلى الإيمان باللّه، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم الرسالة، وبايعهم كما فعل بالإنس‏.

‏‏ والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم أعظم مما أوتيه سليمان؛ فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة اللّه وحده، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه اللّه وطلب مرضاته، واختار أن يكون عبداً رسولا على أن يكون نبياً ملكا، فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد، فهو أفضل، كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين‏.‏

وكثير ممن يرى هذه العجائب الخارقة يعتقد أنها من كرامات الأولياء، وكثير من أهل الكلام والعلم لم يعرفوا الفرق بين الأنبياء والصالحين في الآيات الخارقة وما لأولياء الشيطان من ذلك من السحرة والكهان والكفار من المشركين وأهل الكتاب، وأهل البدع والضلال من الداخلين في الإسلام فجعلوا الخوارق جنساً واحداً، وقالوا‏:‏ كلها يمكن أن تكون معجزة إذا اقترنت بدعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها‏.

‏‏ وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة فلابد أن يسلبه اللّه ما كان معه من ذلك، وأن يقيض له من يعارضه، ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه اللّه، فخاصة المعجزات عندهم مجرد كون المرسل إليهم لا يأتون بمثل ما أتى به النبي مما لم يكن معتاداً للناس، قالوا‏:‏ إن عجز الناس عن المعارضة خرق عادة، فهذه هي المعجزات عندهم، وهم ضاهوا سلفهم من المعتزلة الذين قالوا‏:‏ المعجزات هي خرق العادة، لكن أنكروا كرامات الصالحين، وأنكروا أن يكون السحر والكهانة إلا من جنس الشعبذة والحيل، لم يعلموا أن الشياطين تعين على ذلك، وأولئك أثبتوا الكرامات ثم زعموا أن المسلمين أجمعوا على أن هذه لا تكون إلا لرجل صالح أو نبي، قالوا‏:‏ فإذا ظهرت على يد رجل كان صالحاً بهذا الإجماع‏.

‏‏ وهؤلاء أنفسهم قد ذكروا أنه يكون للسحرة ما هو مثلها، وتناقضوا في ذلك، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.

‏‏ فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان، وما يفعله الشياطين من العجائب، وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح، فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة، فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء، وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك، ثم يقولون‏:‏ الولي إذا تولى لا يعترض عليه، فمنهم من يراه مخالفاً لما علم بالاضطرار من دين الرسول مثل‏:‏ ترك الصلاة المفروضة،وأكل الخبائث كالخمر،والحشيشة، والميتة،وغير ذلك، وفعل الفواحش، والفحش والتفحش في المنطق، وظلم الناس، وقتل النفس بغير حق، والشرك باللّه، وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء اللّه قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل، فضلا من اللّه تعالى، ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين، وأن هذه من أولياء الشياطين تضل بها الناس وتغويهم‏.

‏‏ ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك، فتارة يأتون الشخص في النوم، يقول أحدهم‏:‏ أنا أبو بكر الصديق، وأنا أتوِّبك لي، وأصير شيخك، وأنت تتوب الناس لي، ويلبسه فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه، فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه ولا يعلم أنه الشيطان، وقد جرى مثل هذا لعدة من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام‏.

‏‏ وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصاً‏.‏

وتارة يقول‏:‏ أنا الشيخ فلان، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره‏.

‏‏ وكثيراً ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت، فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وقد يخلصونه مما يكره فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه،أو أن ملكاً تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان لما أشرك باللّه أضلته الشياطين،والملائكة لا تجيب مشركاً‏.

‏‏ وتارة يأتون إلى من هو خال في البرية، وقد يكون ملكاً أو أميراً كبيراً، ويكون كافراً، وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت، فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام و يتوبه، فيسلم على يديه و يتوبه ويطعمه، ويدله على الطريق، ويقول‏:‏ من أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا فلان ويكون ‏[‏ من مؤمني الجن‏]‏‏.

‏‏ كما جرى مثل هذا لي‏.‏

كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص‏:‏ أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولاً وكنت في الحبس، فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنياً يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم؛ لما جاؤوا إلى دمشق‏:‏ كنت أدعوهم إلى الإسلام، فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك‏.

‏‏ قال لي طائفة من الناس‏:‏ فلم لا يجوز أن يكون ملكاً‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏

إن الملك لا يكذب، وهذا قد قال‏:‏ أنا ابن تيمية، وهو يعلم أنه كاذب في ذلك‏.‏

وكثير من الناس رأى من قال‏:‏ إني أنا الخضر، وإنما كان جنياً‏.‏

ثم صار من الناس من يكذب بهذه الحكايات إنكاراً لموت الخضر، والذين قد عرفوا صدقها يقطعون بحياة الخضر، وكلا الطائفتين مخطئ، فإن الذين رأوا من قال‏:‏ إني أنا الخضر، هم كثيرون صادقون، والحكايات متواترات، لكن أخطئوا في ظنهم أنه الخضر، وإنما كان جنياً؛ ولهذا يجري مثل هذا لليهود والنصارى، فكثيراً ما يأتيهم في كنائسهم من يقول‏:‏ إنه الخضر، وكذلك اليهود يأتيهم في كنائسهم من يقول‏:‏ إنه الخضر، وفي ذلك من الحكايات الصادقة ما يضيق عنه هذا الموضع، يبين صدق من رأى شخصاً وظن أنه الخضر، وأن