فصل في استطاعة العبد: هل هي مع فعله أم قبله‏؟‏

السؤال: فصل في استطاعة العبد: هل هي مع فعله أم قبله‏؟‏

الإجابة

الإجابة: فصل:

قد تكلم الناس من أصحابنا وغيرهم في استطاعة العبد، هل هي مع فعله أم قبله‏؟‏ وجعلوها قولين متناقضين، فقوم جعلوا الاستطاعة مع الفعل فقط، وهذا هو الغالب على مثبتة القدر المتكلمين من أصحاب الأشعري، ومن وافقهم من أصحابنا وغيرهم‏.‏

وقوم جعلوا الاستطاعة قبل الفعل، وهو الغالب علي النفاة من المعتزلة والشيعة، وجعل الأولون القدرة لا تصلح إلا لفعل واحد، إذ هي مقارنة له لا تنفك عنه، وجعل الآخرون الاستطاعة لا تكون إلا صالحة للضدين، ولا تقارن الفعل أبدا، والقدرية أكثر انحرافاً فإنهم يمنعون أن يكون مع الفعل قدرة بحال، فإن عندهم أن المؤثر لابد أن يتقدم على الأثر لا يقارنه بحال، سواء في ذلك القدرة والإرادة والأمر‏

.‏ والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة، أن الاستطاعة متقدمة على الفعل، ومقارنة له أيضاً‏.‏

وتقارنه أيضاً استطاعة أخرى لا تصلح لغيره‏.‏

فالاستطاعة نوعان متقدمة صالحة للضدين، ومقارنة لا تكون إلا مع الفعل، فتلك هي المصححة للفعل المجوزة له، وهذه هي الموجبة للفعل المحققة له‏.‏

قال الله تعالى في الأولى‏:‏ ‏{‏‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، ولو كانت هذه الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج، ولا كان الحج واجباً علي أحد قبل الإحرام به، بل قبل فراغه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، فأمر بالتقوى بمقدار الاستطاعة، ولو أراد الاستطاعة المقارنة لما وجب على أحد من التقوي، إلا ما فعل فقط، إذ هو الذي قارنته تلك الاستطاعة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ والوسع الموسوع، وهو الذي تسعه وتطيقه، فلو أريد به المقارن لما كلف أحد إلا الفعل الذي أتى به فقط، دون ما تركه من الواجبات‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً‏}‏‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 4‏]‏، والمراد به الاستطاعة المتقدمة، وإلا كان المعنى، فمن لم يفعل الصيام فإطعام ستين، فيجوز حينئذ الإطعام لكل من لم يصم، ولا يكون الصوم واجباً على أحد حتى يفعله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏‏.

‏‏ ولو أريد به المقارنة فقط لكان المعنى‏:‏ فأتوا منه ما فعلتم، فلا يكونون مأمورين إلا بما فعلوه، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين "صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع، فعلي جنب‏"‏‏‏.

‏‏ ولو أريد المقارنة لكان المعني، فإن لم تفعل فتكون مخيراً، ونظائر هذا متعددة فإن كل أمر علق في الكتاب والسنة وجوبه بالاستطاعة وعدمه بعدمها لم يرد به المقارنة وإلا لما كان الله قد أوجب الواجبات إلا على من فعلها، وقد أسقطها عمن لم يفعلها فلا يأثم أحد بترك الواجب المذكور‏.‏

وأما الاستطاعة المقارنة الموجبة، فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ‏}‏‏ ‏[‏هود‏:‏ 20‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً‏}‏‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 101‏]‏، فهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة، إذ الأخرى لابد منها في التكليف‏.

‏‏ فالأولى‏:‏ هي الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس ‏.

‏‏ والثانية‏:‏ هي الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل، فالأولى للكلمات الأمريات الشرعيات، والثانية للكلمات الخلقيات الكونيات‏.

‏‏ كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ‏}‏‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏‏.

‏‏ وقد اختلف الناس في قدرة العبد على خلاف معلوم الحق أو مراده، والتحقيق أنه قد يكون قادراً بالقدرة الأولى الشرعية المتقدمة على الفعل‏.

‏‏ فإن الله قادر أيضا على خلاف المعلوم والمراد، وإلا لم يكن قادرا إلا على ما فعله‏.‏وليس العبد قادراً على ذلك بالقدرة المقارنة للفعل، فإنه لا يكون إلا ما علم الله كونه وأراد كونه، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكذلك قول الحواريين‏:‏ ‏{‏‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏، وإنما استفهموا عن هذه القدرة، وكذلك ظن يونس أن لن نقدر عليه أي فسر بالقدرة، كما يقال للرجل هل تقدر أن تفعل كذا‏؟‏ أي هل تفعله‏؟‏ وهو مشهور في كلام الناس‏.

‏ ولما اعتقدت القدرية أن الأولى كافية في حصول الفعل، وأن العبد يحدث مشيئته جعله مستغنياً عن الله حين الفعل، كما أن الجبرية لما اعتقدت أن الثانية موجبة للفعل، وهي من غيره رأوه مجبوراً على الفعل، وكلاهما خطأ قبيح، فإن العبد له مشيئة، وهي تابعة لمشيئة الله كما ذكر الله ذلك في عدة مواضع من كتابه‏:‏ ‏{‏‏فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏.‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 55- 56‏]‏، ‏{‏‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29-30‏]‏، ‏{‏‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28- 29‏]‏‏.

‏‏ فإذا كان الله قد جعل العبد مريداً مختاراً شائياً، امتنع أن يقال هو مجبور مقهور مع كونه قد جعل مريداً‏.

‏‏ وامتنع أن يكون هو الذي ابتدع لنفسه المشيئة‏.

‏‏ فإذا قيل هو مجبور على أن يختار مضطراً إلى أن يشاء، فهذا لا نظير له وليس هو المفهوم من الجبر بالاضطرار ولا يقدر على ذلك إلا الله‏.

‏ ولهذا افترق القدرية والجبرية على طرفي نقيض‏.‏

وكلاهما مصيب فيما أثبته دون ما نفاه، فأبو الحسين البصري، ومن وافقه من القدرية يزعمون، أن العلم بأن العبد يحدث أفعاله وتصرفاته، علم ضروري وإن جحد ذلك سفسطة‏.

‏‏ وابن الخطيب ونحوه من الجبرية يزعمون أن العلم بافتقار رجحان فعل العبد على تركه إلى مرجح من غير العبد ضروري؛ لأن الممكن المتساوى الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، وكلا القولين صحيح، لكن دعوي استلزام أحدهما نفي الآخر ليس بصحيح، فإن العبد محدث لأفعاله كاسب لها، وهذا الإحداث مفتقر إلى محدث، فالعبد فاعل صانع محدث، وكونه فاعلا صانعاً محدثاً، بعد أن لم يكن، لابد له من فاعل كما قال‏:‏ ‏{‏‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ‏}‏‏، فإذا شاء الاستقامة صار مستقيماً، ثم قال‏:‏ ‏{‏‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏ ‏.‏

فما علم بالاضطرار وما دلت عليه الأدلة السمعية والعقلية كله حق؛ ولهذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله، والعبد فقير إلى الله فقراً ذاتيا له في ذاته وصفاته وأفعاله، مع أن له ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً، فنفى أفعاله كنفي صفاته وذاته وهو جحد للحق شبيه بغلو غالية الصوفية الذين يجعلونه هو الحق، أو جعل شىء منه مستغنيا عن الله أو كائناً بدونه جحد للحق شبيه بغلو الذي قال‏:‏ ‏{‏‏أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى‏}‏‏ ‏[‏ النازعات‏:‏ 24 ‏]‏، وقال‏:‏ إنه خلق نفسه، وإنما الحق ما عليه أهل السنة والجماعة‏.‏

وإنما الغلط في اعتقاد تناقضه بطريق التلازم، وإن ثبوت أحدهما مستلزم لنفي الآخر، فهذا ليس بحق، وسببه كون العقل يزيد على المعلوم المدلول عليه ما ليس كذلك، وتلك الزيادة تناقض ما علم ودل عليه.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثامن.