الفطر في رمضان من أجل الغزو

السؤال: معلومٌ أنَّ الصِّيام فُرِضَ في السنة الثَّانية، وغزوة بدر كانتْ في نفْسِ السَّنة، فهل صامَ المُسْلمون أثناءَ الغزْوة أو أفطروا؟ وهل كان المسلمون يصومونَ في الغزوات، عندما تكونُ في شهر رمضان؟

الإجابة

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فقد ورد أنَّ معركة بدر وفتْح مكَّة كانتا في شهر رمضان؛ فروى التِّرمذيُّ، عن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنْه قال: "غزوْنا مع رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم غزوتَين: يوم بدْر، والفتْح، فأفطرْنا فيهِما" وقد ضعَّفه الألباني.

وعنِ ابن عبَّاس رضي الله عنْهما: "أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّم خرج من المدينة ومعه عشَرة آلاف، وذلك على رأْسِ ثَمانِ سنين ونصفٍ من مَقْدَمه المدينة، فسار بِمن معهُ من المسلمين إلى مكَّة يصومُ ويصومون، حتَّى إذا بلغ الكديد - وهو ماءٌ بين عسفان وقديد - أفطَرَ وأفطَروا، وإنَّما يُؤْخَذ من أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بالآخِر فالآخِر" (متَّفق عليْه)، والحديث ظاهر في أن النَّبيَّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّم وأصحابه أفطروا قبل لقاء المشركين.

وعن أبي سعيد رضي الله عنْه قال: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليْه وسلَّم إلى مكَّة ونحن صيام، قال: فنزلْنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "إنَّكم قد دنَوْتُم من عدوِّكم، والفِطْرُ أقوى لكُم"، فكانتْ رُخصةً، فمنَّا مَن صام ومنَّا مَن أفطر، ثم نزلْنا منزلاً آخَر، فقال: "إنَّكم مصبحو عدوِّكم، والفِطْرُ أقوى لكم، فأفطِروا"، فكانت عزمةً فأفطرْنا، ثم لقد رأيتُنا نصومُ بعد ذلك مع رسولِ الله صلى الله عليْه وسلَّم في السَّفر" ( أحمدُ، ومسلم، وأبو داود).

أخرج مسلمٌ عن جابر: "أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم خرج عام الفَتْحِ في رمضان، فصامَ حتَّى بلغ كراعَ الغميم وصام النَّاس، ثُمَّ دعا بقدحٍ من ماء، فرفعَه حتَّى نظر النَّاس ثُمَّ شرب، فقيلَ له بعد ذلك: إن بعض النَّاس قد صام، فقال: أولئِك العُصاة".

وفي رواية له: "إنَّ النَّاسَ قد شقَّ عليْهِم الصِّيام، وإنَّما ينظرون فيما فعلْت، فدعا بقدحٍ من ماء بعد العصر" الحديثَ؛ (رواه البخاريُّ).

وروى أبو داودَ، عن بعضِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: "أَمَر النَّاسَ في سفرِه عامَ الفتح بالفِطْر، وقال: "تقوَّوْا لعدوِّكم"، وصام رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم" (صحَّحه الحاكم، وابنُ عبدالبر، والألباني).

وقد دلَّت تِلك الأحاديثُ وغيرها على: أنَّه يَجوزُ لِلمُجاهِدين في سبيل الله الفِطْرُ في رمضان؛ تأسِّيًا بِرسول الله صلى الله عليْه وسلَّم وأمْرِه للصَّحابة بذلك.

قال الشَّوكاني في "النَّيْل" عند قولِه صلَّى الله عليْه وسلَّم: "إنَّكم قد دنوْتُم من عدوِّكم، والفطرُ أقوى لكم": "فيه دليلٌ على: أنَّ الفِطر لِمن وصلَ في سفرِه إلى موضعٍ قريب من العدوِّ - أوْلى؛ لأنَّه ربَّما وصل إليهم العدوُّ إلى ذلك الموضع، الذي هو مظنَّة مُلاقاة العدوِّ؛ ولهذا كان الإفطارُ أوْلى، ولَم يتحتَّم، وأمَّا إذا كان لقاء العدوِّ متحقِّقًا، فالإفطار عزيمة؛ لأنَّ الصائم يضعُف عن مُنازلة الأقران، ولاسيَّما عند غليان مراجِل الضِّراب والطِّعان، ولا يَخفى ما في ذلك من الإهانة لِجنود المحقِّين، وإدْخال الوهَن على عامَّة المُجاهدين من المُسلِمين".

قال الحافظ في "الفتح": "وهذا الحديثُ نصٌّ في المسألة، ومنْهُ يُؤخذ الجواب عن نِسبته صلَّى الله عليْه وسلَّم الصائمينَ إلى العِصيان؛ لأنَّه عزَم عليْهِم فخالَفوا، وهو شاهدٌ لِما قُلناه من: أنَّ الفِطْر أفضلُ لِمَن شقَّ عليه الصَّوم، ويتأكَّد ذلك إذا كان يَحتاجُ إلى الفطر للتقوِّي به على لقاء العدوِّ".
قال أبو العباس القرطبي في "المُفْهم": "فيه دليلٌ على: أنَّ حفظ القوَّة بالفِطْر أفضلُ لِمن هو منتظِرٌ للقاء العدوِّ".

قال ابن القيِّم في "زاد المعاد": "وكان -يعني النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم- يأمُرُهم بالفِطْر إذا دنَوْا من عدوِّهم؛ ليتقوَّوا على قتالِه، فلوِ اتَّفق مثلُ هذا في الحضَر، وكان في الفطْرِ قوةٌ لهم على لقاء عدوِّهم، فهل لهم الفِطْر؟ فيه قولان، أصحُّهما دليلاً: أنَّ لهم ذلك، وهو اختِيار ابن تيمية، وبه أفتى العساكرَ الإسلاميَّة لمَّا لقُوا العدوَّ بظاهِر دمشق، ولا ريب أنَّ الفِطْرَ لذلك أوْلى من الفِطْر لمجرَّد السفر؛ بل إباحةُ الفطر للمسافر تنبيهٌ على إباحته في هذه الحالة، فإنَّها أحقُّ بِجوازه؛ لأنَّ القوَّة هناك تختصُّ بالمسافر، والقوَّة هنا له وللمُسلمين، ولأنَّ مشقَّة الجهاد أعظم من مشقَّة السفر، ولأنَّ المصلحة الحاصلةَ بالفطر للمجاهد أعظمُ من المصلحة بفطر المسافر، ولأنَّ الله تعالى قال: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، والفطرُ عند اللِّقاء من أعظَم أسباب القوَّة... ولأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال لِلصَّحابة لمَّا دنَوْا من عدوِّهم: "إنَّكم قد دنوتُم من عدوِّكم، والفطر أقوى لكم"، وكانت رخصةً، ثُمَّ نزلوا منزلاً آخَر، فقال: "إنَّكم مصبحو عدوِّكم، والفطر أقوى لكم، فأفطِروا"، "فكانت عزمةً، فأفطرنا"؛ فعلَّل بدنوِّهم من عدوِّهم، واحتِياجهم إلى القوَّة التي يلقون بها العدوَّ، وهذا سببٌ آخَر غيْر السَّفر، والسَّفر مستقلٌّ بنفسِه، ولم يذكرْه في تعليله، ولا أشار إليه.

وبالجملة؛ فتنبيهُ الشَّارع –وحِكمته– يقتضي: أنَّ الفطر لأجْل الجِهاد أوْلى منه لمجرَّد السَّفر، فكيف وقد أشار إلى العلَّة، ونبَّه عليْها، وصرَّح بحكمها، وعزم عليهم بأن يُفْطِروا لأجلها". اه.

وقال المناوي في "فيض القدير": "فلو وافاهم العدوُّ في الحضر، واحتاجوا إلى التقوِّي بالفطر - جاز على ما قيلَ؛ لأنَّه أوْلى من الفِطْر بِمجرَّد السَّفر". اه.

وممَّا سبق؛ يتبيَّن: أنَّ المسلمين كانوا يُفْطِرون في رمضان في الجهاد؛ من أجْلِ التَّقوِّي على لقاء العدوِّ، كما ثبت في غزوة فتْح مكَّة وهي من آخِر ما غزَوْا في رمضان،، والله أعلم.