سُئلَ : عن قول النبي: ‏‏الحجر الأسود يمين الله

السؤال: سئل الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ‏:‏ عن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏ ‏"‏ ‏‏الحجر الأسود يمين الله في الأرض"‏‏، وقوله‏ ‏"‏إني لأجد نفس الرحمن من جهة اليمن‏"‏‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏54، يونس‏:‏3، الرعد‏:‏2، الحديد‏:‏4‏]‏ وقوله‏:‏‏{‏‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏‏ ‏[‏الطور‏:‏48‏]‏ ‏[‏في المطبوعة‏:‏ ‏(‏فاصبر‏)‏، والصواب ما أثبتناه‏]‏‏.

الإجابة

الإجابة: أما الحديث الأول، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس قال‏:‏ الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏.‏
ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره، فإنه قال‏:‏ يمين الله في الأرض، فقيده بقوله‏:‏ في الأرض، ولم يطلق، فيقول‏:‏ يمين الله، وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق‏.‏

ثم قال‏:‏ فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه‏.‏
ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً، ولكن شبه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل، ولكن يبين أن الله تعالى كما جعل للناس بيتًا يطوفون به، جعل لهم ما يستلمونه؛ ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء، فإن ذلك تقريب للمقبل وتكريم له، كما جرت العادة، والله ورسوله لا يتكلمون بما فيه إضلال الناس، بل لابد من أن يبين لهم ما يتقون، فقد بين لهم في الحديث ما ينفى من التمثيل‏.‏

وأما الحديث الثاني، فقوله‏:‏ ‏(‏من اليمن‏)‏ يبين مقصود الحديث، فإنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يظن ذلك، ولكن منها جاء الذين يحبهم ويحبونه، الذي قال فيهم‏:‏ ‏{‏‏مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏54‏]‏‏.‏

وقد روى أنه لما نزلت هذه الآية‏:‏ سئل عن هؤلاء، فذكر أنهم قوم أبي موسى الأشعري، وجاءت الأحاديث الصحيحة مثل قوله "أتاكم أهل اليمن أرقّ قلوبًا، وألين أفئدة، الإيمان يماني، والحكمة يمانية‏"‏‏‏.‏
وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار،فبهم نفَّس الرحمن عن المؤمنين الكربات، ومن خصص ذلك بأوَيْس فقد أبعد‏.‏

وأما الآية، فقد استفاض أنه سئل عنها مالك بن أنس، وقال له السائل‏:‏ ‏{‏‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، كيف استوى ‏؟‏ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرُّحَضَا ‏[‏أي‏:‏ العَرَق‏.‏ انظر‏:‏ المصباح المنير، مادة‏:‏ رحض‏]‏، ثم قال‏:‏الاستواء معلوم؛ والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا، ثم أمر به فأخرج‏.‏

وجميع أئمة الدين؛ كابن الماجشون،والأوزاعي، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، كلامهم يدل على ما دل عليه كلام مالك، من أن العلم بكيفية الصفات ليس بحاصل لنا؛ لأن العلم بكيفية الصفة فرع على العلم بكيفية الموصوف، فإذا كان الموصوف لا تعلم كيفيته امتنع أن تعلم كيفية الصفة، ومتى جنب المؤمن طريق التحريف والتعطيل، وطريق التمثيل، سلك سواء السبيل، فإنه قد علم بالكتاب والسنة والإجماع، ما يعلم بالعقل أيضًا أن الله تعالى ‏{‏‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا يجوز أن يوصف بشيء من خصائص المخلوقين؛ لأنه متصف بغاية الكمال، منزه عن جميع النقائص، فإنه سبحانه غني عما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه، ومن زعم أن القرآن دل على ذلك، فقد كذب على القرآن، ليس في كلام الله سبحانه ما يوجب وصفه بذلك، بل قد يؤتي الإنسان من سوء فهمه، فيفهم من كلام الله ورسوله معاني يجب تنزيه الله سبحانه عنها، ولكن حال المبطل مع كلام الله ورسوله كما قيل‏:‏

وكم عائب قولاً صحيحًا ** وآفته من الفهم السقيم

ويجب على أهل العلم أن يبينوا نفي ما يظنه الجهال من النقص في صفات الله تعالى وأن يبينوا صون كلام الله ورسوله عن الدلالة على شيء من ذلك، وأن القرآن بيان وهدى وشفاء، وإن ضل به من ضل فإنه من جهة تفريطه، كما قال تعالى‏:‏‏{‏‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا‏}‏‏ ‏[‏الإسراء‏:‏82‏]‏، وقوله‏:‏‏{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏‏ ‏[‏فصلت‏:‏44‏]‏‏.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)