تفسير قوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}

السؤال: تفسير قوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}

الإجابة

الإجابة:

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، دليل على مثل معنى الحديث الصحيح "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كًلا أو ضياعًا فعلىّ ‏"‏‏ ‏[‏الكلُّ‏:‏ العيال‏]‏ حيث جعله اللّه أولى بهم من أنفسهم‏.‏

ثم جعل الأقارب بعضهم أولى ببعض؛ لأن كونه أولى بهم من أنفسهم يقتضى أن يكون أولى بهم من أولى أرحامهم؛ وذلك لا يقتضى ملك مالهم أحياء فكذلك أمواتاً، وإنما يقتضى حمل الكل والضياع من ماله، وهو الخمس، أو خمسه، أو مال الفىء كله، على الخلاف المعروف، وفيه دليل على أن الأولوية المقتضية للميراث المذكورة فى قوله صلى الله عليه وسلم "فلأولى رجل ذكر‏"‏‏، مشروطة بالإيمان‏.

‏‏ وهذه الآية المقيدة تقضى على تلك المطلقة فى الأنفال ؛ لثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذه فى صورة الأحزاب بعد الخندق وتلك فى الأنفال عقب بدر‏.

‏‏ الثانى ‏:‏ أن هذا مطلق ومقيد فى حكم واحد وسبب واحد والحكم هنا متضمن للإباحة، والاستحقاق ، والتحريم على الغير، وإيجاب الإعطاء‏.‏

الثالث‏:‏ أن آية الأنفال ذكر فيها الأولوية بعد أن قطع الموالات بين المؤمنين والكافرين أيضاً فهى دليل ثان، وهاتان الآيتان تفسر المطلق فى آية المواريث، ويكون هذا تفسير القرآن بالقرآن، وإن كان قوله "لا يرث الكافر المسلم‏"‏‏ موافقاً له، فأما ميراث المسلم من الكافر ففيه الخلاف الشاذ فنستفيد من الآيتين أيضاً مع الحديث، ويدخل فى الآيتين سائر الولايات، من المناكح والأموال، والعقل، والموت، وفى قوله ‏{‏‏إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا‏} ‏[‏الأحزاب‏:‏6‏]‏، دليل على الوصية كآيات النساء‏.

‏‏ قوله‏:‏ ‏{‏‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ‏} الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، دليل على أن ما أبيح له كان مباحاً لأمته؛ لأنه أخبر أن التزويج كان لمنع الحرج عن الأمة فى مثل ذلك التزويج، فلولا أن فعله المباح له يقتضى الإباحة لأمته لم يحسن التعليل وهذا ظاهر‏.‏

وأيضاً ، فإنه إذا كان ذلك فى تزويجه امرأة الدعى الذي كان يعتقد أن تزوجها حرام، ففى ما لا شبهة فيه أولى‏.

‏‏ وأيضاً ، إذا كان هذا فى النكاح الذي خص فيه من المباحات بما لم تشركه أمته، كالنكاح بلا عدد وتزوج الموهوبة بلا مهر، وقد بين أن إباحة عقده النكاح دليل على إباحة ذلك لأمته، ففيما لم يظهر خصوصية فيه كالنكاح أولى‏.

‏‏ وهذا يدل على أن سائر ما أبيح له مباح لأمته، إلا ما خصه الدليل من المعاملات والأطعمة واللباس، ونحو ذلك‏.

‏‏ وأيضاً، فيدل على هذا الأصل قوله‏:‏ فى سياق ما أحله له‏:‏ {‏‏وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لما أحل له الواهبة قال‏:‏‏{‏‏خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏ ليبين اختصاصه بذلك‏.‏

فعلم أنه حيث سكت عن الاختصاص كان الاشتراك ثابتاً، وإلا فلا معنى لتخصيص هذا الموضع ببيان الاختصاص‏.

‏‏ الثانى‏:‏ أنه ما أحله من الأزواج ومن المملوكات ومن الأقارب أطلق، وفى الموهوبة قيدها بالخلوص له؛ فعلم أن سكوته عن التقييد فى أولئك دليل الاشتراك‏.‏

فإن قيل‏:‏ السكوت لا يدل على واحد منهما، والتقييد بالخلوص ينفى الاشتراك، فتكون فائدته ألا يظن الاشتراك بدليل منفصل، فإن التحليل له لا يدل على الاختصاص قطعاً، لكن هل يدل على الاشتراك أم لا يدل على واحد منهما‏؟‏ هذا موضع التردد‏.

‏‏ فإذا قيد بالخلوص دل على الاختصاص‏.‏

قيل‏:‏ لو لم يدل على الاشتراك لم يثبت الحكم فى حق الأمة لانتفاء دليله، كما أن ما سكت عنه من المحرمات لم يثبت الحكم لانتفاء دليله‏.

‏‏ وهنا إما أن يقال‏:‏ كانوا يستحلونه على الأصل، وليس كذلك؛ لأن الفروج محظورة إلا بالتحليل الشرعى، فكان يكون محظوراً عليهم فلا يحتاج إلى إخلاصه له لو لم يكن الخطاب المطلق يقتضى الاشتراك والعموم، وأنه من باب الخاص فى اللفظ العام فى الحكم‏.

‏‏ وأصل هذا أن اللفظ فى اللغة قد يصير بحسب العرف الشرعى أو غيره أخص أو أعم، فالخطاب له وإن كان خاصاً فى اللفظ لغة فهو عام عرفاً، وهو مما نقل بالعرف الشرعى من الخصوص إلى العموم، كما ينقل مثل ذلك فى مخاطبات الملوك ونحو ذلك، وهو كثير‏.‏

كما أن العام قد يصير بالعرف خاصاً‏.

‏‏ وأيضاً، فإنه يبنى ذلك على أصل دليل الخطاب،وأن التخصيص بالذكر مع العام المقتضى للتعميم يدل على التخصيص بالحكم، فلما خص خطاب الموهوبة بذكر الخلوص دل على انتفاء الخلوص عن الباقى وإنما انتفاء الخلوص عن الباقى بعدم ذكر الخلوص مع إثبات التحليل للرسول صلى الله عليه وسلم، فعلم أن إثبات التحليل له مع عدم تخصيصه به يقتضى العموم‏.‏

وعلى هذا، فالخطاب الذي مخرجه فى اللغة خاص ثلاثة أقسام‏:‏

إما أن يدل على العموم كما فى العام عرفاً، مثل خطاب الرسول والواحد من الأمة، ومثل تنبيه الخطاب كقوله‏:‏ لا أشرب لك الماء من عطش‏.‏

ومثقال حبة وقنطار ودينار‏.‏

وإما أن يدل على اختصاص المذكور بالحكم ونفيه عما سواه، كما فى مفهوم المخالفة إذا كان المقتضى للتعميم قائماً وخص أحد الأقسام بالذكر‏.‏

وإما ألا يدل على واحد منهما لفظاً ثم يوجد العموم من جهة المعنى، إما من جهة قياس الأولى، وإما من جهة سائر أنواع القياس ، ويجب الفرق بين تنبيه الخطاب وبين قياس الأولى، فإن الحكم فى ذاك مستفاد من اللفظ عمهما عرفاً وخطابا ، وهنا مستفاد من الحكم بحيث لو دل على الحكم فعل أو إقرار أو خطاب يقطع معه بأن المتكلم لم يرد إلا الصورة؛ لكان ثبوت الحكم لنوع يقتضى ثبوته لما هو أحق به منه، فالعموم هنا معنوى محض، وهناك لفظى ومعنوى، فتدبر هذا فإنه فصل بين المتنازعين من أصحابنا وغيرهم فى التنبيه هل هو مستفاد من اللفظ أو هو قياس جلى‏؟‏ لتعلم أنه قسمان‏.‏

والفرق أن المستفاد من اللفظ يريد المتكلم به العموم‏.‏

ويمثل بواحد تنبيهاً كقول النحوى‏:‏ ضرب زيد عمراً، بخلاف المستفاد من المعنى‏.‏

والآية المتقدمة وهى قوله‏:‏ ‏{‏‏زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، تدل على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تقتضى الإباحة لأمته، مع القطع بأن الفعل فى نفسه لا يعم لفظاً ووضعا ً، وإنما يعم بما ثبت من أن الأصل الاشتراك والإيتساء ‏.‏

ويدل على ذلك أيضاً قوله فى السورة ‏:‏ {‏‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}‏‏ الآية ‏[‏ الأحزاب‏:‏ 21‏]‏ ‏.

‏‏ فإن فيها التأسي فيما أصابه‏.‏

ومتى ثبت الحكم في الإيتساء به فى حكمه عند ما أصابه‏:‏ كان كذلك فيما فعله؛ إذ المصاب عليه فيه واجبات ومحرمات؛ فدلت هذه الآية على أن الأصل مشاركته فى الإيجاب والحظر، كما دلت تلك على أن الأصل مشاركته فى الإحلال‏.

‏‏ قوله‏:‏ ‏{‏‏قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ‏} الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏، دليل على أن الحجاب إنما أمر به الحرائر دون الإماء؛ لأنه خص أزواجه وبناته، ولم يقل‏:‏ وما ملكت يمينك وإماؤك وإماء أزواجك وبناتك‏.

‏‏ ثم قال‏:‏ {‏‏وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ‏} والإماء لم يدخلن فى نساء المؤمنين، كما لم يدخل فى قوله‏:‏ ‏{‏‏نِسَائِهِنَّ‏}‏‏ ما ملكت أيمانهن حتى عطف عليه في آيتي النور والأحزاب، وهذا قد يقال‏:‏ إنما ينبنى على قول من يخص ما ملكت اليمين بالإناث، وإلا فمن قال‏:‏ هى فيهما أو في الذكور ففيه نظر‏.

‏‏ وأيضاً، فقوله‏:‏‏{‏‏لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم}‏‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏، إنما أريد به الممهورات دون المملوكات، فكذلك هذا، فآية الجلابيب في الأرْدِية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن، فهذا مع ما في الصحيح من أنه لما اصطفى صفية بنت حُيَىِّ وقالوا‏:‏ إن حَجبَها فهى من أمهات المؤمنين، وإلا فهى مما ملكت يمينه ، دل على أن الحجاب كان مختصاً بالحرائر‏.

‏‏ وفي الحديث دليل على أن أموة المؤمنين لأزواجه دون سراريه، والقرآن ما يدل إلا على ذلك؛ لأنه قال‏:‏‏{‏‏وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، وهذا أيضا دليل ثالث من الآية؛ لأن الضمير في قوله‏:‏ {‏‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، عائد إلى أزواجه فليس للمملوكات ذكر في الخطاب، لكن إباحة سراريه من بعده فيه نظر .





مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.